كثير من النَّاس -خاصة في البلدان التي وقعت فيها ثورات «الربيع العربي»- أصبحوا يتمنون إن لم تكن قد حدثت تلك الثورات. فهل الخلل في إحداثها، أم في نتائجها، أم في توقعات النَّاس وتصوراتهم عن مثل هذه الأحداث في بلدانهم على وجه الخصوص، وبوضعها الذي آلت إليه بعد عقود طويلة من الجمود، وتَبلَّد أفكار الجماهير بالتركيز في اتجاه واحد فقط.
ما لم يتنبه إليه أولئك الناس، أن الشِّتاء الطويل قبل ذلك قد جعل وضع القاطرة مقلوبًا في تلك البلدان. فإذا أخذنا مصر مثالاً، فإنّها كانت في سنة 1960م تتساوى مع كوريا الجنوبيَّة في مستوى دخل الفرد، وفي توقعات الحياة لدى مواطني كل من البلدين. أما اليوم، فإنّهما ينتميان إلى عالمين مختلفين؛ فبالرغم من أن المصريين يعيشون في مدن مكتظة، وثلاثة أرباعهم متعلمون، إلا أن مستوى دخل الفرد لم يعد يتجاوز خُمس دخل الفرد الكوري الجنوبي. كما أن الفقر، وأمراض سوء التغْذية تهيمن على كثير من تلك الأحياء، وخصوصًا العشوائيات منها.
وبالطبع لم يكن للإخوان المسلمين قدرة على أن يعملوا شيئًا -كما هو متوقع - لأن تلك التراكمات قد أحدثتها سياسات في النظام السابق؛ جعلت النَّاس -مسؤولين ومواطنين- يسعون إلى الترقيع، ومنع انهيار الوضع، بدلاً من التفكير في البناء والأمل في المستقبل.
بعض المحللين يعيد الأمور إلى افتقاد العرب إلى شخصيات ملهمة وحازمة في الوقت نفسه، مثل: أوجستو بينوشيه أو لي كوان يو أو دينج خياو بينج، لضبط النظام وجعل الاقتصاد ينمو. فخلافًا للوضع في جنوب شرق آسيا لا يوجد لدى العرب فلاسفة براجماتيون؛ يستطيعون تغْذية الحس الديموقراطي لدى الجموع، مع ترغيبهم في الوقت نفسه بازدهار الاقتصاد، بل إن خلاف ذلك هو ما يحدث في دوائر السلطة الجديدة مع كل تغيير؛ إِذْ تبدأ المحسوبيات في التكوّن، فتدار الأمور بطريقة عشائرية تتبادل من خلالها المصالح، مع سعي بالطبع إلى قمع المعارضين لذلك التوجه، الذي لا بد أن يحدث في ظلِّ التكالب على مصادر الثَّرْوة والجاه.
وما يضاف إلى هذه الأزمة البنيوية في العقل العربي، أن السلطات الجديدة، التي أتت من خلفيات إسلاميَّة تظن أنّها مفوضة من الرب بالخلافة أو ما يقترب من ذلك؛ لذا فإنّها لا تقبل مبدأ تعقب القوى المعارضة لما تفعله تلك السلطات بالشعب، أو بالدستور أو بعلاقات البلد بالدول الأخرى، أو بالأديان والثّقافات الأخرى في الداخل أيضًا.
وهذا بالذات هو جوهر العملية الديموقراطية التي أتت بهم إلى السلطة. فعن أيِّ شرعيَّة يتحدَّثون؟ هل خلطوا بين شرعيَّة أصوات الشعب، التي أتت بهم، وقد تطيح بهم، وشرع الله، الذي يعتقدون أنهّم يمثِّلونه، كما يسمّون خُطَّتهم داخل أروقة الجماعة؟
في الواقع أن حالة الأنظمة الإسلامية الأخرى، التي وصلت إلى السلطة في بلدان غير عربيَّة مثل ماليزيا وتركيا، تنبئ عن وضع مختلف عن الأوضاع العربيَّة. فالاحتجاجات التي جرَّت مؤخرًا في تركيا ضد الحزب الإسلامي، الذي يترأسه رجب طيب أردوغان تقارن بما يحصل في البرازيل أو أيّ مكان آخر من العالم، تكون قد ترسَّخت فيه الديموقراطية.
إذًا هل القضية مُتَعَلِّقة بالإسلام العربي والأفغاني الذي ارتبط طويلاً بالحركات الجهادية؟ هذا ما قد تكشف عنه الأيام، بعد انكشاف أوراق البلدان الأخرى التالية بدءًا من تونس إلى ليبيا واليمن، وربما سوريا المستقبل. لكن الثابت أن ما جرى يمكن وصفه بالهزات الاجتماعيَّة السياسيَّة أكثر من الثورات المرتبطة بمبادئ جديدة؛ فالثورة الحقيقية تكون في العقول أكثر منها في الشوارع والميادين.
الرياض