كنا في الطائرة نحلق على ارتفاع هائل ما بين مدينة نيس الفرنسية وفرانكفرنوت الألمانية: سألني طفلي.. ما هذه السحب البيضاء ومما تتكون؟ لم أعرف على وجه التحديد كيف أجيب “سألني كيف تتكون السحب وهل يمكنني القفز ما بينها؟ سألني عن المدن الألمانية كم عددها وهل هي مكتظة بالناس أم هي هادئة كما يقرأ ويري في النت؟
ماذا يعني كل ذلك ؟
إن الطفل حين يتعلم عن العالم فهو ليس محصورا ببيئته المدرسية بل ما يؤثر حقا هي البيئة العائلية لتي تخلق ثقافة مختلفة تؤكد على اختلاف طفل عن الآخر.. لهذا ظهرت تسميات مثل الفقر الثقافي (مقابل الفقر المادي) والذي يعني عدم توفر الوسائل والفرص الثقافية لتنمية الطفل بشكل مثر ومشبع ثقافيا؟
هناك مئات من لحظات التعلم التي يمكن للأب وللأم ولكل مرافق للطفل أن يمنحاها لطفلهما (بما في ذلك العالمة المنزلية حين يتم تعليمها وتنبيهها لهذه الفرص الهامة في بناء عقل ومخيلة الطفل).. مثلا ومن الأسئلة التي طرحناها في ذلك اليوم “كيف يمكن لهذه المدن أن تكون خضراء حينما يكون وطننا أصفرا حين نسافر عبره؟ لماذا تمطر هنا ولا تمطر هناك؟ ما أهم المدن الألمانية؟ ماذا فعلت ألمانيا للعالم؟ كم عدد سكانها؟ وماذا فعل هتلر حتي يترك هذا الأثر السيئ غير المنسي للألمان في ذهن العالم؟؟؟
كثير من الأسئلة التي يطرحها الأطفال أثناء الترحال يمكن أن تكون فرصة للتعلم.. فرصة لمعرفة تاريخ العالم ومعلوماته وسكانه وجغرافيته وعلاقتهم به ودورهم في شحذه وملئه بالحياة والمعرفة والحب.
من الغريب ان مئات آلاف من اطفال السعودية يرتحلون عبر العالم ويجوبون اهم مدنه ومعالمه كل عام بل ربما أكثر من مرة في السنة في الوقت الحاضر لكنهم لا يمتلكون معلومات دقيقة حول كل ماشاهدوه؟ لماذا؟؟ لأننا لا ندرك الفرص التعليمية التي تحفل بها تجاربنا الشخصية المباشرة ولا نعطي أنفسنا واطفالنا الوقت الكافي لتأملها والتحدث فيها.
أتذكر حين كنت أدرس في بريطانيا وكنت أقف علي الرصيف في محطة المترو في لندن في أنتظار القطار التالي. علي اليمين مني جلست أم وطفلتها.. تحركت الطفلة من مقعدها تلعب هنا وهناك.. جلست في مكان الطفلة وبدأت في قراءة الجريدة.. بعد قليل عادت الطفلة وبدأت تتكلم مع امها بزعل وتدفها بيدها طالبة المكان.. انتبهت في هذه اللحظة وعزمت على التحرك واخلاء المقعد للصغيرة .. رفضت الأم باصرار عجيب وهي تلقن أبنتها الدرس التالي : المقاعد والإمكانات في كل الأماكن العامة ليست شيئا نمتلكه نحن . هي مملوكة للعامة لكافة المواطنين والساكنين في المنطقة، ومن ثم من حق اي أحد ان يجلس في هذا المقعد اذا تم تركه؛ سواء كان ذلك في سوق أو مطار أو غيره.. واستمرت الأم تشرح لابنتها بهدوء شديد قواعد السلوك في الأماكن العامة وكيف يجب ان نتصرف.. وجاء القطار وركبت واذا أنا أمام أم أخري وطفلها المتسائل: في كل محطة يقف عندها القطار كان الطفل يسأل نفس السؤال: ماما لماذا ينزل الناس هنا ويركب آخرون ؟ فتجيب الأم في هدوء وابتسامة: كيف ان محطات المترو تمر على محطات عديدة بحسب المناطق السكنية، ومن ثم فالناس تتنقل عبره لعملها وقضاء حاجاتها وفي كل محطة من المحطات السبع التي مررنا عليها كان الطفل يسأل نفس الأسئلة وتجيب الأم بنفس المثابرة والابتسامة والحب، وتخيلت أن أي أحد منا وطفله يجر ثوبه في مكان عام.. كيف سيكون حاله وكيف سيصبر عليه ويبتسم في وجهه؟ سيقول له : خلاص قلت لك مليون مرة ليش تكرر؟ وننسي ان الطفل يكرر فيلم الكرتون خمسين مرة والأغنية خمسين مرة ولا يملها؛ لأنها تفتح نافذة جديدة في مخيلته كل مرة، والفكرة هي في استغلال لحظات التفاعل اليومية مع الطفل في أثناء أكله وشربه وتغييره ونومه لفتح مخيلته على ما يحفل به العالم من أمكانات هائلة يمكن للطفل أن يتفاعل معها ويستمتع بها ويؤثر فيها ايجابا حين يفهم: كيف تحدث ومن هنا.. من هنا تخلق فرص التعلم النادرة ويخلق الرجال والنساء العظام الذين يؤثرون في العالم.
نحن كأسر سعودية نهمل الكثير من اللحظات النادرة للتعلم؛ سواء كنا داخل بيوتنا أو على سفر ومن النادر ان نهتم بالذهاب الى متاحف العالم واكتشاف ثرواته العلمية والفنية.. نعم نحن لم نتعلم مثلهم (المتاحف تخصص مستقل في معظم الجامعات حيث هي جزء من برامج التعلم والأثراء في المدارس مما يتطلب اعداد متخصصين في ذلك ) لكن لا يمكننا فقط الأكتفاء بلوم الذات او الآخر والتفرج فقط على الأهمال ( غير المتعمد ) لفرص حقيقية للنمو نمر بها معهم لكننا لم نتعلم كيف نستغلها بالدرجة التي تمنحهم عقلا علميا وفنيا قابلا على تقبل العالم والمساهمة في تغييره الي الأفضل بالطرق السلمية.