تعد القصص التاريخية والاجتماعية والوثائقية قاسماً مشتركاً لدى كافة الشعوب والحضارات واللغات، وكان لكل حضارة، ولكل قوم، ولكل شعب، بل ولكل مدينة وقرية قصصها الخاصة أو العامة التي تناقلها الرواة شفاهة، أو دوّنها كتابة حتى وصل إلينا قصص لحضارات وأمم منذ آلاف السنين، وسمعنا وقرأنا عن قصص تراثية وأخبار تاريخية، ووثائقية لمجتمعاتنا المحلية منذ مئات السنين، وقد تختلف روايات القصة إذا كانت مشافهة، وتبقى محفوظة إذا كانت مكتوبة وموثقة.
وهذه القصص التراثية - مع ما بها من العبر والأخبار المتخذة للعبرة أو التسلية - فيها فوائد أخرى لا تقل شأناً عما ذكر، فقصص المجتمع وحكاياته من فروع علم التاريخ، كما أنها من فروع علم الجغرافيا ومن فروع علم تدبير المنزل، وعلم الأخلاق، ومن فروع علم السياسة والاجتماعات المدنية، ومن فروع علم الاحتساب.
وقد اعتنى الأدباء والمؤرخون بأحوال طائفة لحقبة محددة فأفردوها بالتأليف، وفوائد ذلك تعود على المجتمع بالخير الكبير الذي لا يحصى.
وفي تلك القصص التعرف على المدن والجبال والبراري والبحار والأنهار، ومسالك البلدان والأمصار من الطرق الواقعة بين البلاد، والعلامات المنصوبة، ومعرفة تلك المسالك من المشاق والمخاوف.
وموضوع فن القصص معرفة سلوكيات الناس من حيث الإفراط والتفريط، ومما يفيده التأسي بذوي المروءات، والبعد عن صفات الأشرار، والهدف من هذه الحكايات أن يكون الإنسان كاملاً في أفعاله بقدر الإمكان ليكون في أولاه سعيداً، وفي أخراه حميداً.
وكان المؤرخ العبقري «ابن خلدون» المتوفى سنة (808 هـ) رائداً في دراسة العمران البشري، وحوادث الدهور، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد.
والله - سبحانه وتعالى - قص علينا أحسن القصص، أي: أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوباً، وأصدقه أخباراً، وأجمعه حكماً وعبراً، فقال - عزوجل - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ . يوسف 3.
فإذن علم القصص علم شريف القدر، عزيز الذكر، نافع لأهل الفكر.
وإن مما أثلج صدري، وأدخل السرور على نفسي قراءة كتاب (أنيس السمار من القصص والأخبار والأشعار) لمؤلفه أخي الشيخ الشاعر الأديب الذواقة الباحث / عبدالمجيد بن محمد بن سليمان العُمري «أبوجواد» حفظه الله، فأمتعني أيما إمتاع، وفرحت به أيما فرح، إذ وجدت فيه قصصاً لحقبة عزيزة علينا، اشتمل على أحداث تاريخية، وأخلاق أبناء مملكتنا الحبيبة المملكة العربية السعودية.
إن الحديث عن المؤلف قبل الكتاب مهم، وذلك ليعرف القراء الأكارم، ولو بشيء موجز، رحلة المؤلف أو الباحث مع القراءة والكتابة، فعندما توفي الوالد - رحمه الله - كان أخي عبدالمجيد في المستوى الثاني من الدراسة الابتدائية، ولم يثنه ذلك عن متابعة الدراسة؛ لأن المسؤولية الجسيمة في تربية الأبناء انتقلت إلى أم عظيمة في تحملها أعباء شؤون أولادها، حريصة على تربيتنا وتعليمنا على الرغم من ضيق ذات اليد. فقد ضحت في سبيل تعليمنا وتربيتنا بكل غال ونفيس، بل تخلت عن بعض متطلباتها الأساسية، وحوائجها المهمة في سبيل تقديم ما نحتاجه من مال في مواصلة دراستنا، وفي شراء ما نهوى من كتب.
لقد كانت والدتي - رحمها الله - تقدم سعادتها وراحتها وقلبها ونفسها وكل ما تستطيع تقديمه دون منِّ ولا شكور ولا جزاء، بل تقدمه، وهي في راحة وسعادة، لأن هدفها أن تسعى في مصلحة أولادها من جميع النواحي، وبخاصة الناحية العلمية والتثقيفية مع كونها أمية. وقد كان أخي عبدالمجيد الوحيد من بيننا الذي يوفر مصروفه اليومي من أجل شراء كتاب أو قصة على الرغم من عمره الصغير.
وأعود بالحديث عن مؤلفه حيث كان اعتماده فيما دوّنه على ما شاهده، أو ما سمعه، من أخبار أهل العصر، مع ذكر أسمائهم وأحوالهم، لحفظ تراث تلك الحقبة من الزمن، وإبراز أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإبراز الحركة الثقافية، ورصد حياة الناس في معاشهم، وقد أطلعنا المؤلف على نماذج من الأخيار، وأهل المروءات، ونحن بحاجة إلى معرفة ذلك.
وقد أوضح المؤلف أنه ركز على ركيزتين:
الركيزة الأولى: إبراز الأخلاق الفاضلة، مشيراً إلى تأييدها من الكتاب والسنة.
وفي حال ذكر الأخلاق والتصرفات المذمومة يبين ذمها من الكتاب والسنة أيضاً.
الركيزة الثانية: القصيدة وحضورها الدائم، فلربما تكون القصيدة سبباً في حفظ الحكاية وتاريخها، فالشعر ذاكرة التاريخ، والشعر الشعبي هو خزانة تحتوي على تقاليد الحياة، وعادات البشر، والبيئة التي يعيشونها، وتحكي أفراحهم وأتراحهم.
والحكايات التي أوردها المؤلف حكايات هادفة تدعو في مضمونها إلى مكارم الأخلاق؛ لأنه صوّرها تصويراً متحركاً وبطريقة مؤثرة بما يمتلك من ناحية الرواية والأدب والبيان.
وكتابه هذا نقل لنا التراث الشعبي والأدبي، وما يتعلق بالحياة التي عاشها الآباء والأجداد في غابر الأزمان، وهي حافلة بأحداث لا يعرفها الأبناء، وقد اتسمت الأحداث بأسلوب سهل كأن مؤلفه يحدثنا على سجيته وطبيعته، ويقص لنا عما رآه أو سمعه مبرزاً فيها العبرة والعظة.
وحوى الكتاب بين دفتيه مشاهد مؤثرة، وكنوزاً قيمة، تعطي صورة صادقة عن ملامح ذلك المجتمع، وما حوى من الحنين إلى الوطن، وحب الأهل، والوفاء مع أهل المعروف وحفظ الجميل لأهله، وإكرام الضيف، وتحمل مشاق الحياة من الأسفار من أجل العيش الكريم، ونجدة الغريب.
وحوى الكتاب أيضاً قصصاً تظهر النتائج المؤلمة للصفات الذميمة كالعقوق، والبخل، والفشل، والمكر، والغدر، والحيل، وسوء الظن، والانتقام، والعصبية، والتعدي على الأموال والأعراض والدماء، والغيبة، والنميمة، والكذب إلى غير ذلك.
ومضمون الكتاب تاريخ لأحداث رجال غبروا، ولكنه ليس على طريقة التراجم المألوفة في كتب التراجم، وإنما جاء بذكر أطراف من يسير الرجال بأسلوب عفوي، وخير الكلام ما جاء عفواً، كما اتسم بالسهولة مع الفصاحة، فلا تكلف فيه، ولا تعقيد، ولا التواء.
بقي أن أشير إلى أن الكتاب لم يرد له مؤلفه الظهور والخروج لولا إصرار الأحبة ودفعهم إياه لذلك، وتقديره لطلبهم، وكان الهدف في السابق من تدوينه حفظ المعلومة والرواية، وحينما رأى أنه لا مناص من طباعة الكتاب حذف منه الشيء الكثير؛ لأنه انتقل من الخاص إلى العام، وما يقال مشافهة في مكان خاص غير ما يطرح للعامة، وأنه ليس كل ما يعلم يقال، ومما يميز كتابه أنه انفرد بقصص وأخبار عايشها، وسمع من أهلها مباشرة، أو من أبنائهم وإخوانهم، فكانت الرواية والقصة موثقة بسند مباشر، وحرص كثيراً على عدم نشر ما سبق نشره إلا حينما يتطلب الأمر توضيحات، أو تصحيح معلومة مغلوطة اشتهرت وانتشرت وتأكد من ما يخالفها، كما أن من الحسن في كتابه عدم التعرض لأسماء الأشخاص والمدن والقبائل إلا بكل خير، وأن ما ورد قصة أو رواية سلبية لا يذكر أهلها امتثالاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما بال أقوام).
وإذا كان الأخ عبدالمجيد قد أعد الكتاب أنيس السمار فمؤلف الكتاب أنيس في المجالس بحضوره وموسوعيته واطلاعه على كثير من الفنون والآداب، ولا يخلو حديثه من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الحكماء والشعراء؛ ولذا فإنني أرتقب وأطلب منه أن يتحفنا بإصدارات أخرى من أنيس السمار ففي جعبته الشيء الكثير.
نسأل الله تعالى أن يجزي مؤلفه خيراً، ويبارك في أوقاته ليعطينا المزيد من العطاء الماتع الذي فيه نفع العباد والبلاد.
alomari1420@yahoo.com