أحترم الرجل المتشدّد الأصيل والمتوائم مع تأصيله وإن اختلفت معه، بينما أحتقر الرجل المتشدّد المزيّف، الذي ينافح عن رأي وتأصيل معين، ثم إذا دعته الأهواء ضرب برأيه وما يقتضيه تأصيله عرض الحائط، وسلك منهجاً مغايراً لما كان يُدافع عنه.
كنت وما أزال أعتقد أن ما يُسمى بالاختلاط مصطلح مُفبرك، لم يعرفه القاموس الفقهي إلا مؤخراً؛ فقد كان الرجل والمرأة طوال تاريخ الإسلام يعملان في الأسواق بيعاً وشراءً، وفي رعي الماشية في البادية، وكذلك في المزارع سوية، بل وإذا اقتضى الأمر تُشارك المرأةُ الرجلَ في الحروب والغزوات كما هو ثابت بشكل قطعي لا يقبل المكابرة في كتب السير والتاريخ؛ غير أن التوسع في (سد الذرائع) وإعمالها في كل صغيرة وكبيرة من مناحي الحياة جعل المتشدّدين ينتهون إلى نهايات لا يمكن أن تواكب ضروريات العيش السوي، ولا تنسجم إطلاقاً مع تاريخ المجتمعات الإسلامية، والأخطر أنها أصبحت من أهم عوائق التنمية الاقتصادية بمعناها الشامل؛ ففرضوا على حياة المرأة الاجتماعية قيوداً ما أنزل الله بها من سلطان؛ ومع الزمن أصبحت هذه القيود كأنها من المعلوم من الدين بالضرورة؛ من اختلف معها فقد اختلف مع الدين ومقتضيات الشريعة.
المتشدّدون هؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم أصيل، مُنسجم مع ما يطرح، مُلتزمٌ بمقتضيات ما يقول في كل مناحي الحياة؛ هؤلاء لا تملك إلا أن تحترمهم وإن اختلفت معهم..
وقسم آخر (مُزيّف)، انتهازي، ميكافيلي، الغاية لديه تبرر الوسيلة؛ فهو يُمارس التشدّد ليس عن قناعة، وإنما حسب الأهواء؛ فإذا احتاج إلى المرأة كوسيلة لتحقيق غاياته (وظَّفها) واستغلها في أبشع صورة، وإذا استغنى عنها وعن جهودها أعادها لتستقرَّ في بيتها كأنها قطعة أثاث.
المتظاهرون للإفراج عن معتقلي الإرهاب هم من النوع الثاني أعني المتشدّدين المزيّفين؛ يُخرِجون المرأة ومعها أطفالها للتظاهر في الطرقات والأسواق للضغط على الدولة لإطلاق سراح معتقلي الإرهاب، ويُدخلونها في قضايا سياسية شائكة، ولو سألت أحدهم: ما رأيك في الاختلاط لحرَّمه، بل وبعضهم يرتقي به ليجعله من (الموبقات).. طيّب: إذا كان الاختلاط مُحرّماً كما تدّعون، والمرأة يجب أن تَقَرَّ في بيتها، فكيف أجزتم لها أن تخرج وتتظاهر، وتُخاصم، وتنتظمُ في المسيرات، وترفع الشعارات، أليست هي في رأيكم (الجوهرة المصونة) التي يجب أن يكون شغلها الشاغل بيتها وتربية أبنائها وخدمة زوجها، ولا تتدخل في قضايا السياسة التي يجب أن تنحصر في الرجال، ويبتعد عنها النساء؟
التناقض هنا ظاهر وجلي لا يمكن أن يجادل فيه إلا مغالط؛ وفي الوقت ذاته يؤكّد ما كنا نقوله ونردده ومؤداه أن هؤلاء القوم طلاب سياسة لا دعاة دين؛ فالدين لديهم مجرد (وسيلة) وجسر يَعبرون من خلاله إلى غاياتهم ومصالحهم.. وهؤلاء لا يختلفون - أيضاً - عن أحد مدّعي الوعظ والدعوة وهو متناقض من رأسه حتى أخمص قدميه؛ صاحبنا هذا لا يمل يُحرم الاختلاط، ويدّعي أن وزارة العمل ومن أجاز الاختلاط المنضبط الذي لا خلوة فيه من الفقهاء قد ارتكبوا شططاً؛ ثم نكتشف صدفة أن هذا (الحكواتي) نفسه قد شَدَّ رحاله إلى دبي، وحاضر بشكل مباشر و(مُختلط) في نساء دون أي قدر من الحياء؛ فكيف صار الاختلاط بالله عليكم في دبي حلالاً وفي بلادنا حراماً؟
صحيح أن علماءنا كانوا في الماضي متشدّدون، غير أن تشدّدهم -رحمهم الله- كان عن قناعة، وعن تقوى، وعن رؤية رأوها واقتنعوا بها، فتراهم مُنسجمون مع الفكرة التي يرونها ومع مقتضيات قياساتها، لا يكيلون بمكيالين لأنها نابعة من كونهم يخافون الله رب العالمين أولاً وأخيراً.. أما المزيّفون من الصحويين فهم مجرد لحى كثَّة وثياب قصيرة ومظاهر تُوحي للبسطاء والسذّج بأنهم متدينون؛ أما الجوهر فواحد من اثنين: إما (سياسي) انتهازي محض، أو (تاجر جشع) يُتاجر بمفاهيم التشدّد وقلبهُ وقلب أشعب صِنوان!
إلى اللقاء..