تطلق هذه المقولة في وجه من يضع الشمس في يد والقمر في يد، متلاعبا بمشاعر الناس، من خلال إدعائه بقدرته الفائقة على الإنجاز بأقصى درجات السرعة والكمال، مستخدما بكل جرأة الكلام المعسول في بيان وجهة نظره، أو تفسير مواقفه، أو التعبير عن نواياه وإنجاز وعوده، يطلق الكلام الجميل المدجج بعبارات إنشائية فضفاضة تبدو معالم الكذب فيها واضحة جلية، لأنها في الغالب تستعصي على التصديق والقبول، نظرا لملامح المبالغة فيها التي لا تخفى على الفطن اليقظ الذي لا يغر بتبسيط الأمور، وتسهيل الصعاب والعقبات بمجرد الكلام الذي لا يمكن أن يتوافق مع الفعل ومتطلباته.
تذكرت هذه المقولة التي طالما سمعتها كثيرا عندما كنت صغيرا من رجل مسن كان لا يمل من الاستشهاد بها للتقليل والتهوين من اندفاع الذين يبالغون في الحديث عن أنفسهم وقدراتهم الخارقة، وإمكاناتهم النافذة في كل المجالات، أو أولئك الذين يبسطون الأمور زاعمين أنهم يستطيعون الإنجاز وهم في حقيقة الأمر لا يقدرون على الفعل أو الوفاء ببعض ما تحدثوا عنه، هؤلاء لا يترددون في وضع أنفسهم في مكانة ليسوا أهلا لها، لكنهم من فرط حب الظهور، والحرص على أن يكونوا في نظر الآخرين أكفياء، يتناسون ما يترتب على تلك المواقف والإدعاءات السرابية من فقدانهم للمصداقية والتقدير والاحترام.
ومع هذا مازال هذا الصنف من الناس يعمد دون حياء إلى تلمس ما يطمح إليه الآخرون، والتعرف على ما يتوقعونه أو يتطلعون إليه، ومن ثم يطلقون العنان لألسنتهم المخادعة الكاذبة، يداعبون المشاعر، ويعزفون على وتر التمنيات بالكلام الرخيص اللين اللطيف المعسول، يسحرون السامع بالعبارات المنمقة، والوعود الكاذبة، يضخمون الإنجازات، يستعرضون الأفكار والمشروعات التي مازالت في مراحل الإعداد ويعرضونها باعتبارها إنجازات ناجزة محققة، أو أنها في المراحل النهائية للإنجاز، بينما تلك المشروعات في حقيقة الأمر مجرد أفكار لم ترق بعد إلى مرحلة التنفيذ.
الأشنع من هذا والأفضع، ذاك الذي يقابل الآخرين بوجه طلق بشوش، ويعطي من طرف اللسان حلاوة عند الملاقاة والمقابلة، وبعد أن ينصرف الصاحب أو القاصد أو المراجع -المخدوع-، تنقلب الحال رأسا على عقب، حيث ينقلب ذاك الوجه الطلق إلى وجه عبوس، وذاك اللسان الحلو إلى لسان زفر، تغير مضمون الكلام وصفته، من الكلام الحلو اللطيف، إلى كلام بذيء منفر مؤذي، تنقلب حال المراوغ سريعا، وتتبدل بلمح البصر، ويتخلى عن ما سبق أن وعد بإنجازه، وما أبداه من الاستعداد والوعد بالمتابعة، ويبدل الكلام الجميل الذي أسرف في التشدق به وترديده، إلى حالة تثير الحيرة، بل الإشمئزاز، حيث سرعان ما ينكص المراوغ على عقبه، ويسير في الاتجاه المعاكس لما وعد به من استعداد جعل المخدوع يطمئن إلى أن هذا المخادع سوف ينجز ما وعد به.
إن هذا النمط من السلوك يعد حالة مرضية، حالة تتعارض مع أبسط القيم والأخلاق واحترام الذات وتقديرها، هذا النمط من السلوك لا يمكن أن يعد من زلل الكلام، العاقل يحسب ألف حساب لكل كلمة يقولها، لهذا قيل: يمكن أن يزل الإنسان بقدمه، لكنه لا يمكن أن يزل بلسانه، للكلمة احترامها وقيمتها في ميزان الثقة والتقدير.
يعلم المختصون في علم النفس أن المصابين بمرض انفصام الشخصية “الشيزوفرينيا”، هم الذين لا يحسنون التحكم في مقولاتهم، هم من يصدر منه السلوكات المتناقضة، وفي كثير من الأحيان متعارضة، يقولون قولا جميلا منمقا، وفي لمحة بصر، يقولون نقيضه، وكأن القائل شخص آخر لا علاقة له بالقائل الأول.
الذي يحترم ذاته، يحترم قوله، إياك أن تعد ولا تفي، إياك أن تبالغ في القول وأنت لا تقدر على الإنجاز.