في جريدة الحياة ليوم السبت 12 رجب 1433 / 2 يونيو 2012 م ومن خلال زاوية «ربما» المكثفة وشديدة الإنارة تذمرت كاتبة الرأي الزميلة بدرية البشر من غارة الهاشتاق التي حالت بينها وبين حرية الكلام في الحرم الأكاديمي المفتوح في جامعة قطر، رغم أن هذه الجامعة هي من وجهت الدعوة للكاتبة لإلقاء محاضرة عن وسائل الإعلام والأخلاق الجديدة.
ثلاث ملاحظات وردت في زاوية الزميلة بدرية، وكانت في منتهى الأهمية لأنها تحمل في داخلها الإجابات الحقيقية على أسباب إلغاء المحاضرة:
«في الطريق إلى الفندق مقابل البحر تموضعت في بهاء من الحكمة مجسمات ضخمة تقول: «فكر، افهم، انجز».
«أصر فضولي على معرفة إذا ما كان هناك جهة أمنية أو رسمية من خارج الجامعة أملت هذا القرار إلا أن محدثتي أكدت أنه قرار داخلي.
«آخر ما توقعت أن تفوق شجاعة إدارة معرض الكتاب في الرياض جامعة قطر التي تروج منها قناة الجزيرة شعارها «الرأي والرأي الآخر».أ.هـ
هذه النقاط الثلاث حسب وجهة نظري المتواضعة تجيب عن أسباب إلغاء المحاضرة، ولكن بعد أن تضاف إليها ملاحظة رابعة ذكرتها الزميلة بدرية في مكان آخر خارج زاوية «ربما»، هي أنها وجدت في السوق الحرة بدبي كتاب «لماذا يحب الرجال العاهرات» فتساءلت مستنكرة كيف يباع مثل هذا الكتاب للناس (في بقعة من مجلس التعاون) وتمنع محاضرتها عن أخلاق الإعلام الجديدة (في بقعة أخرى مجاورة في نفس المنطقة).
في نهاية الحرب الأهلية الأمريكية استقبل الرئيس إبراهام لنكولن كاتبة رواية كوخ العم توم، هارييت ستو بذراعين مفتوحين قائلا: هذه إذن تلك السيدة النحيلة الضئيلة التي أشعلت تلك الحرب الكبيرة.
لم تكن رواية هارييت ستو هي التي أشعلت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب لتحرير الرقيق في الجنوب. أسباب الحرب كانت اقتصادية بحتة بين الشمال الصناعي الذي يدفع الأجور للبروليتاريا ويحتاج إلى التصدير والأسواق، وبين الجنوب الذي يعتمد إنتاجه على العمالة المسخرة بالبلاش، بل ويتكسب أيضا من بيع الرقيق كبضاعة إنتاجية. كتاب هارييت ستو عن عذاب الرقيق تم توظيفه في الشمال كمبرر أخلاقي لحرب أسبابها سياسية اقتصادية. من قبل ذلك تم استخدام الإنجيل للاستيلاء على الأرض وطرد الهنود الحمر إلى كندا والملاذات النائية كمبرر أخلاقي لتحضير المتوحشين.
في حضارتنا الإسلامية حصل ما يشبه ذلك: أولئك الذين تم اضطهادهم وإيداعهم السجون أيام المأمون من فقهاء الحديث والنقل، اتكاء على قضاء فقهاء الكلام والعقل (المعتزلة) أعيد لهم الاعتبار أيام الواثق وأخذت الملاحقة والاضطهاد مسارا معاكسا استنادا على قضاء الفقهاء المبعدين سابقا. كان الموضوع في الحالتين توظيفا سياسيا حسب معطيات الظروف.
مجسمات في الطريق إلى الفندق «فكر، افهم، أنجز» كانت إيحاء سياسيا بمعنى أن حرية الفكر والفهم والإنجاز تجدونها عندنا هنا وليس هناك، لكنها لم تكن بالقدر الذي تتسع له الحريات الأكاديمية في الحرم الجامعي في قطر. القرار الجامعي كان الدعوة للمحاضرة، أما إلغاؤها فكان بالتأكيد ممن يملك قرار الإلغاء، وتوظيف الإلغاء كان سياسيا، لأنه لا يوجد تفسير آخر يدخل العقل.
أما مسألة الرأي والرأي الآخر في قناة الجزيرة فواقع الحال في التعامل مع الداخل والخارج والتوظيف السياسي للدعاية العولمية واضح لا لبس فيه، لكن المثقف المحشور بين الزوايا يقول شيء أحسن من لا شيء والمشاهد العاقل يميز بين الغث والسمين.
شجاعة إدارة معرض الرياض للكتاب وشجاعة جامعة قطر لكل منهما ظرفها الاجتماعي الذي تترتب عليه حسابات لا بد من أخذها في الاعتبار، ومتى كانت السياسة تابعة للثقافة وأين وفي أي عصر؟
أسهل الإجابات قطعا سوف تكون على بيع كتاب «لماذا يحب الرجال العاهرات» في مكان ومنع محاضرة أكاديمية مفتوحة عن أخلاق الإعلام الجديدة في مكان مجاور، ذلك لأن العاهرات لا يقدمن فكرا تترتب عليه تبعات تتفاعل داخل العقول، بعكس المحاضرة عن الأخلاق الجديدة في الإعلام.
أبو حيان التوحيدي أحرق كتبه ومات جوعا، وجونتر جراس أصبح مهددا بسحب جائزة نوبل للآداب منه، والزميلة بدرية عبرت بوابة صحراوية من مكان إلى مكان مجاور، وكل مكان له حساباته الخاصة. العتب على السياسة يا سيدتي ليس على العشرين شخصا الذين هشتقوا فشهقت لهم جامعة قطر. على كل حال: ما أنتِ أول سارٍ غره قمر.