هكذا إذن انتهت الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة فى مصر بوضع المصريين أمام خيارين يقفان على طرفي نقيض كما يبدو في ظاهر الأمر، وبقي الوسط فارغاً، إنها نتيجة محيرة وصعبة.. لكن المتأمل في النتائج الرسمية المعلنة يرى أنها تعبر عن شيئين:
أولهما أنه لا أمل كبير لمرشح لا يسنده تنظيم شعبي أو حزبي، كما يتضح من تأخر ترتيب أبو الفتوح وعمرو موسى.. وثانيهما أن هذه النتائج تعكس صورة صادقة للميول السياسية في مصر في الوقت الحاضر. وما دام الواقع كذلك فإن الحكم على النتائج ومآلاتها يجب أن يكون واقعياً أيضاً.
ولن يفيد المجتمع المصري أن يتخذ المحبطون -وأغلبهم ليبراليون ويساريون وطنيون مخلصون- موقفاً سلبياً رافضاً انطلاقاً من الاعتقاد بأن كلا المرشحين وجهان لعملة واحدة، وأن كلاهما يعزف نفس اللحن ولكن بتوزيع موسيقي مختلف.
الكثيرون كانوا يتمنون أن تقع النتيجة فى الوسط. ولكن كما قال شاعر مصر أحمد شوقي:
وما نيل المطالب بالتمنى
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
والانتخابات صنف من الغلاب الذي لا يملك المرء فى النظم الديمقراطيه إلا أن يقر بنتيجته ولو كانت غير مرضية. وحتى لو خيب فارس الأحلام المنتخب لاحقاً ظنون منتخبيه فإن مبدأ تداول السلطة كفيل بتصحيح الخطأ. وموضع الحيرة التى أراها في هذه النتيجة الأولية أن الواقفين فى الوسط -وهم يمثلون ما يقارب أربعين في المائة من المقترعين- هم الذين سيقررون أيّ الطرفين أحق بالفوز، مع أن بعضهم سيكون من القاعدين الذين لا يرغبون في الذهاب للاقتراع. وهذا في حد ذاته سيرجح كفة أحد الطرفين. وسيكون لنشاط المرشحين الاثنين (محمد مرسي وأحمد شفيق) ولحملة كل منهما دور في التأثير على الناخبين بأسلوب أو بآخر حسبما تحمله شعاراتهما من إيحاءات تنطبع في أذهان الناخبين الذين سيتحملون على أيّ حال مسؤولية الاختيار، منطلقين من دوافع عاطفية أو مصلحية أو من قناعات مبدئية. وعند تأمل ما يقال ويكتب في وسائل الإعلام يخيل للمرء أن الاختيار بين هذين المرشحين يعني الاختيار بين اتجاهين متضادين: أحدهما للدولة الدينية (محمد مرسي) والآخر للدولة المدنية (أحمد شفيق). وفي رأيي أن هذا استنتاج غير مؤكد ومبالغ فيه للأسباب التالية:
- أن كلا المرشحين أعلنا التزامهما -نظرياً على الأقل- بقضايا أساسية مثل حق المواطنة وحقوق المرأة والعمل الديمقراطي ورغبتهما في التعاون مع القوى السياسية الأخرى.
- أن الدستور هو الذي يحدد في الواقع خيار الدولة وهذا الدستور لم تتم صياغته بعد.
- أن كلا المرشحين يعرفان أن الذين سيرجحون كفة أحدهما أكثرهم قادمون من التيارات الوسطية -أي لم يكونوا في المرة الأولى مؤيدين للطرف الفائز، ولذلك سيتسابق المرشحان على إرضائهم.
- أن مفهوم الدولة المدنية لا يتناقض مع الوجه المدني للإسلام، ولعل النموذج التركي شاهد على ذلك. - مصطلح الدولة الدينية يحجر واسعاً ولا يستخدم إلا لوصف نظام مذهبي متعصب مثل نظام الدولة في إيران (ولاية الفقيه والنص الدستوري على أبدية المذهب الجعفري!)، أو ربما كان ملائماً لوضع دول أوروبا في العصور الوسطى حين كانت الكنيسة مسيطرة على السلطة الزمنية والدينية.
ولكن الاختلاف يظهر جلياً بين الذين يقررون اختيار أحد المرشحين عندما ننظر إليهم ليس من زاوية الإقبال بل من زاوية الإدبار.. فالذين يتجهون إلى المرشح الإخواني إنما يهربون عن مرشح محسوب على الحكم العسكري ونظام حسني مبارك ظانين أنه سيعيد العهد السابق وديكتاتورية الحزب الحاكم. والذين يتجهون للمرشح العسكري إنما يهربون عن مرشح محسوب على الإسلام السياسي ظانين أن حقوق الأقباط وحقوق المرأة والحريات العامة ستكون آخر ما يفكر فيه وخائفين من ديكتاتورية الفقيه الولي. وقد يكون كل واحد من المرشحين أطيب من الآخر فى خلقه ووطنيته وعلمه ولكنه يصبح رديئاً إذا نسي أن الذين رفعوه في الجولة الأولى (أي أنصاره) لا يمثلون سوى عشر الناخبين المسجلين فى القوائم -وعددهم واحد وخمسون مليون مواطن- ولم يتذكر إلا إملاءات التيار الذي ينتمي إليه فقط. لذلك فإن الفائز منهما في انتخابات الإعادة يواجه تحدياً ليس سهلاً يتمثل في اتخاذ الخطوات العملية الصحيحة الكفيلة بإزالة تخوف المجتمع المصري والعالم الخارجي من انحيازه إلى التيار الذى يضم أنصاره وخضوعه لهيمنة ذلك التيار. هذا التحدي يتطلب لاجتيازه بنجاح الحكمة والمصداقية، لأن حيل التلاعب عن طريق خلق الواجهات لم تعد تنطلي على مجتمع أشعل شبابه الثورة.
ولكن هل يملك أيّ من المرشحين الاثنين القدرة على حيازة هذه المصداقية والاستقلال عن التيار الذي ينتمى إليه أصلاً، والذي قد يكون دفعه دفعاً إلى الترشح للانتخابات لكي يكون واجهة التيار في الحكم؟.. نعم. يستطيعان ذلك إذا نظراً إلى الأمام ولم يلتفتا خلفهما بل وخلعا الجلباب القديم الذي يعرفان به. فالمرشح الإخواني -إن فاز- ينتظر أن يقوم بخطوات قاطعة الدلالة على أنه رئيس لجميع المصريين وأنهم في الحقوق سواء وأنه لن يشغل نفسه بحلم جماعة الإخوان المسلمين النرجسي بقيام خلافة إسلامية لا تؤدي إلا إلى نشوء قومية إسلامية سلطوية ولن يشغل الناس بمعارك الانتقام ومطاردة الخصوم، بل هو سيعمل على إدارة دولة عصرية حديثة دينها الإسلام ، نعم، ولكن سلطتها تنبع من الشعب لا من الحزب، وأنه سيعمل كرئيس مستقل عن جماعة الإخوان المسلمين وفي ظل اتفاق وتآلف مع القوى الوطنية الأخرى. أما المرشح العسكري فالمنتظر منه أيضاً أن ينشئ مؤسسة رئاسية يتعاون في إطارها مع القوى الوطنية ويوكل قيادة المؤسسات التنفيذية والرقابية في الدولة إلى عناصر كفؤة ونزيهة ولم تكن مشاركة في مظاهر الفساد المالي والإداري والسياسي أن يقنع الناس بانفصاله عن قيادات الحكم السابق وحزبه وأساليبه وأن يعترف (كما يريد معارضوه من التيارات غير الإسلامية) بشرعية ثورة 25 يناير.. إن هذه توقعات صعبة ولكنها بمثابة امتحان للرئيس الفائز. فلن تكون السنوات الأربع القادمة مريحة، ذلك أن العيون المراقبة مسلطة عليه ومنتبهة إلى مدى مصداقيته فى التعهدات والبرامج التي وعد بها، وسيدرك أن أية زلة قدم ستحشد المناهضين مرة أخرى إلى ربيع آخر!.