كان الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير المعارف حينذاك - رحمه الله -، يقوم بجولة تفقدية مفاجئة على مدارس الدوادمي المحدودة العدد جداً خلال ثمانينات القرن الهجري المنصرم، وبدون بشت (عباءة رجالية)، وكان من ضمنها مدرسة مشرفة الابتدائية التي كانت واحدة من مدرستين ابتدائيتين فقط في الدوادمي، فلمّا دخل المدرسة فوجئ برجل كان منهمكاً في بناء فصل دراسي جديد يساعده في عملية البناء عدد محدود من الطلبة، فطلب منه أن يدلّه على المعلم، فأجاب (دون معرفة للوزير): أنا المعلم، فقال له الوزير: لا أقصد معلم البناء بل معلم الفصل، فردّ عليه: أنا معلم الفصل ومعلم البناء معاً، وحينذاك عرف الوزير حقيقة الوضع وتعرّف على معلم البناء الذي كان هو نفسه مدير المدرسة فأعجب بمبادرته وشكره، وأخبره المدير أنّ المدرسة كانت بحاجة ماسة لفصل دراسي جديد، ويبدو أنه كتب للوزارة ولكن لا مجيب، فقرر أن يشمر عن ساعديه وأن يبني الفصل بنفسه مع بعض الطلبة بعد توفير مواد البناء اللازمة، حتى لا يتعطل الطلبة عن الدراسة.
وهذا المدير هو المربي الفاضل عمر بن محمد العبداللطيف الذي أمضى زهرة شبابه وكهولته ولمدة أربعين عاماً في التعليم وإدارة المدارس، وانتقل إلى رحمة الله أخيراً، وهو من طينة بعض مربِّي الأجيال ومديري المدارس في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي على وجه الخصوص، الذين كانوا من طراز نادر وكانت سيرهم وتضحياتهم أشبه بالأساطير إذ كانوا يعدّون طلبة المدارس بمثابة أولادهم داخل المدارس وخارجها. بهذا حدثني الأخ الأستاذ سعد بن عبداللطيف العبداللطيف الذي عمل في مجال التعليم حيناً، وأحد رواد فن النحت في المملكة العربية السعودية، الذي جعل مع كوكبة مبدعة من النحاتين من مدينتهم الدوادمي عاصمة لفن النحت في المملكة، فلا يذكرها هذا الفن إلاّ مقترناً بهذه المدينة، كما حدثني عن شهامة الراحل وعطفه على الفقراء من الطلبة، حيث كان يمدهم بالحقائب الدراسية، ويقدم لهم الملابس الشتوية، ولم يكن يقتصر في ذلك على أبناء المدرسة التي يدرّس فيها أو يديرها، بل كان يمتد إلى أبناء المدارس الأخرى في الدوادمي والتي كانت محدودة العدد على أي حال كما ذكر آنفاً، مع العلم أن رواتب المعلمين ومديري المدارس آنذاك كانت من أقل الرواتب والدخول، كما لم يكن يقصر عمله واهتمامه بالطلبة على الدوام الرسمي فقط، بل كان يتابع الطلبة في أماكن تجمعاتهم خارج مدارسهم فينصحهم ويقوّم سلوكهم ويوبخهم إذا لزم الأمر، ويستثير فيهم جوانب النخوة والاعتزاز حينما يذكرهم بأنهم أبناء فطرة سليمة مباركة، وسليلو أسر ذات سمعة عطرة لا يجوز الإساءة إليها والعبث بها، وأكثر من ذلك كان يطبق عليهم عملياً ما جاء في الأثر «علِّموا أولادكم الرماية والسباحة ...»، حيث كان يقوم بنفسه بتدريب من لا يعرف السباحة عليها في محيط الآبار والمزارع في الدوادمي، كما ذكر لي عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود الأخ سعد بن محمد الطخيس.
وعلى الإجمال، كان رحمه الله يعد المدرسة التي يديرها بمثابة مؤسسة خاصة به، حيث كان يحرص كل الحرص ويبذل كل الجهد كي تسير أمورها على أكمل وجه ممكن، وقد أخبرني الأخ العميد محمد بن إبراهيم العثمان الذي زامله في إحدى المدارس في منتصف سبعينيات القرن الماضي عن عدم اكتراثه بالمفتشين الذين كانت ترسلهم وزارة المعارف لتفقد المدارس، مع العلم أنهم كانوا آنذاك يخيفون مديري المدارس وبخاصة المقصرون منهم، لأنه كان مطمئناً تماماً على المدرسة التي كان يديرها، وعلى أحوالها وعلى سير العملية التربوية فيها، وقد حدث يوماً أن فوجئ بمفتش، وزيادة على ذلك كان ضخم الجثة يقف أمامه وهو منهمك في العمل في مكتبه، فلما استفسر منه عن أمره علم أنه مفتش جاء لتفقد أحوال المدرسة، فأجابه بكل اطمئنان وثقة: مفتش؟ الأمر سهل! تفضّل! وأخذه معه في جولة عليها لتفقد كافة أمورها، فوجدها على ما يرام.
لقد كانت النخوة والشهامة والوطنية مفتاح شخصية الفقيد سواء على محيط أسرته الصغيرة أو الكبيرة أو على مستوى الوطن، وطالما سافر إلى الرياض لتقديم واجب العزاء في أحد أفراد الأسرة أو حضور اجتماعها السنوي حتى بعد أن وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً، وأذكر عندما كنت صغيراً منذ ما يزيد على أربعة عقود سفري لأول مرة إلى الدوادمي ضمن جنب من الرياض (الجنب بفتح الجيم والنون في اللهجة النجدية أقارب وأصدقاء العريس الذين يرافقونه في موكب إلى بيت ذوي العروس أو المكان الذي يقام فيه الزفاف)، إنه رحمه الله كان ضمن المستقبلين، وأصر حينها إصراراً شديداً على أن يأخذ أفراد الجنب في جولة قرب الدوادمي لزيارة مواقع أثرية ثمينة تحتوي على أوان منزلية وفخار وزجاج وأدوات زراعية وصناعية وغيرها لحضارة سابقة، وكان بمثابة الدليل السياحي لهم، الذي يؤدي عمله بغاية الحماس، وبافتخار واعتزاز بتلك الآثار الحضارية، وبالموقع الذي توجد فيه، في وقت كان الوعي والاهتمام بالآثار ضئيلاً لدى الناس، وحتى لدى الجهات المعنية، ويا ليت شعري ما مصير تلك الآثار الآن؟
لقد كان هذا المربي مثالاً رائعاً في سلوكه وأخلاقياته التي استمدها من هدي الإسلام وقيمه السامية في تعامله مع الآخرين وحبه لهم، وطبقها على نفسه قبل تطبيقها على طلبته العديدين والذين بارك الله فيهم فخدموا هذه البلاد العزيزة في مجالات شتى حيث كان منهم أستاذ الجامعة، والطبيب، والمهندس، والعسكري، وغير ذلك.
وإذا كانت المصائب هي التي تظهر معادن الرجال الحقيقيين، فإنّ أبا محمد قد اجتاز محنة وبلاء تعد من أشدها وقعاً على القلب والوجدان بل والعقل أحياناً، وذلك حينما تعرض ابنه قتيبة (سمّاه بهذا الاسم تيمناً بفاتح المشرق العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي)، للدعس منذ ثلاثة عقود تقريباً، فصبر واحتسب واسترجع ولم يقل إلا ما يرضي الرب، اقتداء بالأسوة الكبرى محمد صلى الله عليه وسلم، وعفا بكل أريحية وشهامة عن المتسبب في ذلك، ولم يأخذ حتى الفدية، علماً بأنّ فقد الولد كما تصفه العرب صدع في الفؤاد وجرح لا يندمل مع الليالي والأيام، وهو الذي جعل إحدى الأعرابيات تخاطب ابنها المتوفى صائحة مولولة ذاهلة فاقدة للعقل والرشد ببيت ربما كان أوجع ما قيل في رثاء الأمهات للأبناء في الشعر العربي:
يا فرحة القلب والأحشاء والكبد
يا ليت أمك لم تحبل ولم تلد!
وجعل شعر الرثاء وبخاصة مراثي الأولاد أصدق وأعمق أغراض الشعر العربي، فخلد أبا ذؤيب الهذلي في عينيته وجرير في لاميّته وابن الرومي في داليّته، ودفع جلال الدين السيوطي المؤلف الموسوعي إلى تأليف رسالة فريدة في هذا الشأن، ُتُعد من أرفع ما كتب في التراث الإنساني عنوانها: «فضل الجلد عند فقد الولد». وإذا كان الناس شهود الله في أرضه فقد كانت مقبرة الدوادمي خير شاهد على ذلك، إذ كانت خاصة بالمشيعين حاضرة وبادية عند توديع أبي محمد، وخيراً فعل من أشرفوا على دفنه حيث عمدوا إلى حجر كبير من المرو (الحجر الناصع البياض) وجعلوه إحدى نصائب القبر، فكأنه يمثل بصدق قلبه الأبيض الذي كان ينبض بالحب لجميع الناس، وقديماً قال الشاعر العربي: «طيب تراب القبر دل على القبر».
فيا صاحب الشهامة والنخوة، ويا صاحب الهبات الصادقات عاملك الله برحمته التي وسعت كل شيء، وعاملك بعفوه وجوده وكرمه لا بعدله، وصادق العزاء والمواساة لأسرته التي تحلّقت حوله في غرفة العناية المركزة فكان منظرهم يفطر القلب، ولكن أكبر عزاء لهم أنك قدمت على من هو أرحم وأكرم وأبر به منهم، وإن كل مصيبة تهون بعد مصاب الأمة بفقد خاتم النبيين، والذي رثاه حسان بن ثابت ببيت لا ينصرف ولا يصدق إلا عليه، صلوات الله وسلامه عليه:
من مات بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر
وختاماً، فما أحرانا في هذا العصر الذي كثر فيه التسيب والتهاون والفساد، وعدم الحماس في العمل وبخاصة في القطاع الحكومي دونما حياء أو خوف من الله أو الناس أو المسؤولين، فتعطّلت مصالح البلاد والعباد أن نسترجع سير المخلصين من أبناء هذه البلاد وتحديداً عند بداية نهضتها وظهور النفط فيها من أمراء أو قضاة أو مربين أو عسكريين أو غيرهم ممن ولي أمراً من أمور الناس، فضحّوا وأدّوا أكثر من المطلوب منهم في خدمة الوطن وأهله، لعل في ذلك قدوة وحافز للأجيال الحديثة، مع العلم أن الكاتب شخصياً يعرف نماذج مشرفة موجودة الآن بيننا من عينة أولئك الأسلاف في الإخلاص والتضحية في العمل وأداء الأمانة، ولكنهم لا يحبّون الأضواء، فهم بمثابة الجنود المجهولين، وما زالت أمّة محمد بخير، ولكن يبدو أنهم الاستثناء وليس القاعدة، كما كان قبلاً في عهد الأسلاف.