الإستراتيجية هي أم القواعد؛ فمدير الشركة والوزير في أي قطاع والمسؤولون السامون ورئيس الجامعة وعميد الكلية وغيرهم كلهم في حاجة إلى إستراتيجية في عملهم تقيهم شرنقص النظر وتمكنهم من النظر بعيدا
في التحليل وأخذ القرارات الصائبة واستشراف المستقبل. وتسيير الشأن العام أمر صعب ويتطلب حنكة وذكاء وقواعد تمكن من حمله القدر أمانة تقلد المسؤولية من النجاح في عمله والسهر على مصالح البلاد والعباد؛ وقد يظن ظان أن الإستراتيجية هي محدودة بالمسائل العسكرية؛ كلا وألف كلا ! فمفهوم الإستراتيجية ليس محدودا بالهيمنة العسكرية أو التخطيط العسكري؛ وينبغي توضيح هذه النقطة؛ وحتى الأمن القومي فهو يتمثل في أكثر من مجرد استخدام الجيش، ويتطلب تطوير وتوظيف جميع عناصر القوة التي تمتلكها الأمة؛ وعلاوة على ذلك فإن الأمن القومي يشمل المكونات الداخلية الخارجية، وهذا يزيد من تعقيدات ترسيخه على أرض الواقع؛ وبمصطلحات مبسطة حسب ما كتبه الخبير هاري آر.يارغر يمكن القول: إن الإستراتيجية في جميع مستوياتها معرفة بأنها حساب الأهداف والمفاهيم والموارد ضمن حدود مقبولة للمخاطرة، لخلق نتائج ذات مزايا أفضل مما يمكن أن تكون عليه الأمور لو تُركت للمصادقة أو تحت أيدي أطراف أخرى. والإستراتيجية تعرف رسميًا في المنشورات المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية في الفقرة 1 البند 02 بأنها: “فكرة أو مجموعة أفكار حكيمة من أجل توظيف أدوات القوة الوطنية بطريقة منظمة ومتكاملة، لتحقيق أهداف معينة في مسرح العمليات وأهداف وطنية و/ أو متعددة الجنسيات”.
يمكن فهم الإستراتيجية بطريقة أفضل على أنها “فن” و”علم” تطوير واستخدام القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية - السيكولوجية والعسكرية للدولة المعنية بصورة منسجمة مع توجيهات السياسة المعتمَدة، لخلق تأثيرات ومجموعة ظروف تقوي السياسات الداخلية أيا كانت تعليمية أو اقتصادية أو مالية أو تنموية، كما أنها تحمي المصالح القومية وتعززها مقابل الدول الأخرى، أو الأطراف الفاعلة الأخرى أو الظروف والمستجدات. وتسعى الإستراتيجية، إلى إيجاد التآزر والتناسق والتكامل بين الأهداف، والطرائق، والموارد، لزيادة احتمالية نجاح السياسة، والنتائج الإيجابية التي تنجم عن ذلك النجاح. فهي عملية تسعى إلى تطبيق درجة عالية من العقلانية والاتساق لمواجهة ظروف قد تحدث وقد لا تحدث. وعلى رغم تعقيدات هذه المهمة، فإن الإستراتيجية تحققها من خلال عرض مبرراتها ومنطقها في مصطلحات عقلانية ومتسقة، يمكن وصفها ببساطة بأنها غايات وطرائق ووسائل. وأفضل طريقة لفهم الإستراتيجية هي وصفها بأنها دليل سياسي لبلوغ الوضع المنشود. ولكن مثل هذا الدليل يمكن أن ينطبق على الغايات المحددة، والطرائق، والوسائل المستخدمة في الإستراتيجية.
إن صياغة الإستراتيجية تجمع بين الفن والعلم. ومن زاوية كونها فنا، يمكن تفسير صياغة الإستراتيجية على أنها ساحة للعبقريات النادرة، حيث يتواصل القادة الموهوبون بفعل حدسهم إلى حلول عظيمة لقضايا معقدة بشأن السياسة والدبلوماسية والاقتصاد وهلم جرا... فدعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله إلى اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي تشكل تجسيدا لهذا النوع من الاستراتيجية الاستباقية والموهوبة سنرجع إليها في مقالتنا للأسبوع المقبل.
ولا يمكن إنكار دور العبقري الحقيقي، ولكن ليس هناك سوى دول قليلة في البيئة الدولية الحالية التي تتسم بالدينامية تستطيع تحمل عواقب الانتظار إلى حين وصول عبقري يعول عليه. ويمكن أن يطمئن العدد الأكبر من محترفي هاته الأمورلحقيقة كون الإستراتيجية علما أيضا. وهذه الحقيقة توحي بأن صياغة الاستراتيجية يمكن أن تراقب، وتكتب عنها النظريات، ويمكن أن يتم تحسين مستوى تطبيقها من خلال الدراسة والخبرة. وبالفعل هناك مؤلفون بارزون ومشاهير كثر مثل صن تزو، وكارل فون كلاوزفيتر، وكولن جراي، اعترفوا بأهمية الفن والعبقرية في صياغة الإستراتيجية، وقدموا الهيكل النظري والملاحظات التي تساعد على فهم أفضل لممارسة صياغة الإستراتيجية.
وللأسف فإن الدول العربية تنقصها كتب ودلائل إستراتيجية تنجزها جامعات أو مراكز أبحاث تكون عونا للخاص والعام في مجال تخصصه وفي بلده سواء في الاقتصاد أو في المالية أو في السياسة أو الدبلوماسية أو غيرها على شاكلة الكتب والدلائل الإستراتيجية التي تنجزها مراكز الأبحاث الأمريكية.
ولهذا نجد في بعض الكتب والدلائل مرونة علمية في المنهجية الأكاديمية الني يتبعها الجامعيون المختصون خاصة في أمريكا؛ فعالم العلوم السياسية مثلا لا يمكن تصوره في معزل عن علوم العلاقات الدولية والعكس صحيح؛ فهما مجالان مترابطان أيما ترابط؛ وأنا أتفق كامل الاتفاق مع المختصة جوزيفا لاروش عندما تكتب أنه يخطئ الباحث عندما يظن أن ال علاقات الدولية يمكنها أن تدرس ويكتب عنها بصفة منفردة: فأي تصور دولي هو جزء من العلوم الإنسانية والسياسية؛ وأي جهل لهذا المنطق قد يؤدي بالبحث إلى جعله مبتورا يفتقد إلى كل معاني المصداقية ويقوم بتفقيره ويجعله عبارة عن دراسات عامة ووصفية إن لم نقل صحفية؛ فصعود فاعلين جدد في الجبال الشامخة للدبلوماسية والسياسات الخارجية تفرض علينا ليس فقط الاتكاء على ضرورة تداخل عمل المختص في التاريخ، والعلوم السياسية أو العلاقات الدولية أو العلوم الإنسانية وإنما تطبيقا جذريا للسوسيولوجيا الويبيرية على ما هو عالمي.
المهم أن تكون من بين أهداف الاستراتيجي التنظير الذي يمكن أن يساعدنا بها على توسيع وتنظيم تفكيرنا؛ وأستحضر هنا كلمات كلوزفير عندما يكتب عن النظرية من حيث إنها يجب أن تكون مخصصة للدراسة وليس لتبنيها من حيث هي عقيدة؛ آنذاك تصبح النظرية دليلاً لكل شخص يريد أن يتعلم (.....) من خلال الكتب؛ فهي تنير طريقه، وتسهل تقدمه، وتدربه على الحكم السليم؛ وتساعده على تجنب المأزق..... تكون النظرية بحيث لا يحتاج المرء إلى البدء من جديد كل مرة للتعرف على المسألة وتحليل تفاصيلها، بل يجدها جاهزة بين يديه، ووفق ترتيب جديد. والغاية منها تدريب عقل المرشح ليكون قائدا في المستقبل...
وهذا من بين مقاصد بعض المراجع الدولية وعلى رأسها الدليل المغربي للإستراتيجية والعلاقات الدولية الذي سينشره تحت إشرافنا وكل سنة بالعربية والفرنسية والانجليزية، المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الإستراتيجية والدولية؛ إذ سيسعى إلى تغذية عقول الاستراتجيين الدبلوماسيين والسياسيين والاقتصاديين والباحثين والطلبة والأكاديميين وصانعي السياسة الوطنية والدولية وتساعدهم على بناء وعي فكري جديد بمجال تخصصهم، تفتح أذهانهم على كل الاحتمالات، وتحضهم على التفكير في التكاليف والمخاطر المترتبة على القرارات، وتزن النتائج والعواقب وتسمح لهم التواصل بذكاء مع المشتغلين في الحقول الأخرى؛ فهذا الدليل الذي أتمنى أن تنجزه جميع المراكز البحوثية العليا في أوطاننا العربية، يمكن أن يلعب دور الإطار المرجعي المشترك لتوثيق وتحليل وصناعة وتقويم السياسات والاستراتيجيات المناسبة، وإيصالها إلى أولئك الذين حملهم القدر على تنفيذها.
كما أن هذا الدليل سيشكل عنصرا مساعدا ومهما لتثقيف العقول بعيدا عن البساطة. والتفكير الاستراتيجي والتنظيري النظري عمل صعب وإلا لماذا تخفق الاستراتيجيات الحكومية العديدة في اجتياز اختبار الواقعية وتحقيق النتائج الملموسة عند تنفيذها؟ وإلا لماذا مثلا تنجح الإستراتيجية الاقتصادية في الصين وكوريا الجنوبية وتخفق تلك التي تطبق في اليونان وإسبانيا وإيطاليا مثلا؟
فالإستراتيجية علم وفن تستلزم من صاحبها الإلمام بكل التفاصيل الموجودة فوق الحشائش وتحت الحشائش، وتفاصيل العالم الحديث واختلافاته خاصة إذا أخضعت المسألة إلى عملية مؤسساتية أو حوار فكري وطني بل وعالمي وهي مسألة شديدة الأهمية ولكن لها نتائج لا يمكن أن توصف.