لا أعتقد أن ثمة طريقاً بقي لبشار الأسد وذويه غير الهروب واللجوء لطهران، ليتخلّص من مأزقه ومن مصير القذافي الذي أراه يقترب نحوه يوماً بعد يوم؛ وأعتقد أن مكابرته، وإصراره على القتل والتدمير لن يُنجيه من هذا المأزق في النهاية؛ فقد جرب القمع أربعة عشر شهراً فلم يخرجه القمع من نفقه المظلم، بل زاد ظلامه ظلاما.
واضح أن بشار فشل بامتياز في إدارة اللعبة في بلده، وأن إصراره على أسلوب والده وعمه والرعيل الأول من آل الأسد هو ما أوصله إلى هذا المأزق، وجعل الخناق يضيق عليه وعلى جيشه وشبيحته يوماً بعد يوم. ورّط بشار وأهله وطغمته اعتقاده أن حلول الأمس صالحة لمواجهة أزمات اليوم، وأن ما حكم به والده صالح ليحكم به الابن من بعده؛ لذلك بقي حافظ الأسد (حياً) لم يمت، وكأني به وبمن حوله يستحضرون شخصية حافظ كلما واجهوا مشكلة أو حلَّت بهم مصيبة من خلال استحضار تراثه وتصرفاته ومقولاته وتوصياته، يبحثون فيها وفي منطقها عن حل لمشاكلهم، وكأنَّ الزمن عنصر (استاتيكياً) ثابتاً وغير متغيّر، وهذه ليست وقفاً على بشار وذوي حافظ الأسد بالمناسبة، وإنما هي من ثوابت الذهنية العربية؛ فما سار عليه الآباء صالح دائماً لأن يسير عليه الأبناء، أما اختلاف الزمن والظروف والعوامل بين الأمس واليوم فلا قيمة لها عند المقارنة والبحث عن الحلول؛ أي أن عامل اختلاف الزمن ليس حاضراً في أذهانهم.
هل لو واجه حافظ الأسد (الداهية) هذه المتغيّرات اليوم سيعالجها بنفس الطريقة التي واجه بها ثوار حماة في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم؟.. أكاد أجزم أن الإجابة هي (لا)، لسبب بسيط مؤداه أن حافظ هو من الدهاء والذكاء والقدرة على قراءة الأحداث، ناهيك عن الواقعية، بحيث يتهيأ لها ويستعد قبل أن تقع، ما يجعلها تمر عن يمينه وعن شماله دون أن تؤثّر على بقائه. أما بشار فهو شاب مترف، بلا تجربة، ولم يعرف المعاناة قط، غارق في الملذات؛ وكأي إنسان منغمس في الترف حتى أذنيه، وفي النعيم حتى الثمالة، ومحفوف بمجاميع من المطبلين وماسحي الجوخ، تتبلّد لديه حاسة الشعور بمعاناة الآخرين، وتوقّع ردود أفعالهم، وتتضخم (الأنا) لديه حتى يتوهّم أن الناس من حوله مجرد أقزام وهو العملاق الوحيد بينهم، لذلك كانت ردة فعله، أو هي ردة فعل صديقه وابن خالته حاكم درعا، على مشاغبات أطفال درعا وشخبطاتهم على الجدران قاسية وشرسة ومتطرفة ولا تتناسب إطلاقاً مع الجرم الذي اقترفوه، لأنه فهم أن الحكم يعني (القمع) فقط، والضرب بيد من حديد كما كان مورثهم يفعل في زمنه، ليكون هؤلاء الأطفال عبرة لآبائهم، غير أن هذا التصرف الأرعن كان بمثابة الجذوة التي أشعلت سوريا بكاملها في وجهه، فاكتشف متأخراً، وبعد فوات الأوان على ما يبدو، أن (القمع) والضرب بيد من حديد ليس دائماً هو الحل، وها هي الثورة رغم أعلى درجات القمع تحث خطاها قادمة إليه في قصره في دمشق، ولا بد من أن تصل إليه طال الزمن أو قصر.
مشكلة الأبناء أن آباءهم الذين ورثوهم الحكم لا يموتون، وإنما يبقون أحياء في أذهانهم، أو في لا وعيهم، يُشكلون لهم قدوة، ويستعيدون تصرفاتهم وأقوالهم وقصصهم، ويغفلون عن حقيقة مؤداها أن الزمن وما يكتنفه من ظروف عناصر مُتغيّرة وليست ثابتة؛ فلو كان آباؤهم يمرون بما يمر به الأبناء الآن فليس بالضرورة أنهم سيمارسون نفس الحلول التي مارسوها لمواجهة تلك التحديات، فلكل زمان دولة ورجال وظروف أيضاً.
إلى اللقاء.