ركَّزت في المقال السابق على استخلاص أهم الإشكاليات التي تواجه تعليمنا اليوم من خلال القراءة الأولية لمحاضرة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز التي ألقاها في مناسبة الاحتفال بجائزة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن فهد للتفوّق العلمي لهذا العام، ولعل هذه الإشكاليات التي جاءت على لسان سموه وبكل شفافية ووضوح هي في أوجز صياغة لها تمثّل النظرة الشاملة للنظام التعليمي وتعبّر عن فنيات ومعايير التشخيص العلمي الدقيق لكافة عناصر المنظومة التربوية والتعليمية، بداية بإطارها المرجعي ومنطلقاته الأساسية القائمة على أهم الثوابت وأعزها علينا ورفض كل ما يتعارض مع الدين والعقيدة “وتلك هي فلسفة التربية وفلسفة التعليم التي تعبّر عن ركائز البناء وغاياته، لتفسح المجال بعد ذلك في إبداع الصيغ والبنى التعليمية والتربوية حسب معطيات العصر والطموح الوطني والمعايير الدولية الاحترافية في توظيف المدخلات وإدارة العمليات والتحسّن المتجدّد في مستوى المخرجات وانتهاءً بحق الطالب الطبيعي في إيجاد بيئة تربوية وتعليمية تتلاءم والمقدرات التي خصصت لتعليمه من قبل الدولة”.
لقد ذكر سموه في ثنايا محاضرته أن تمويل التعليم والدعم المستمر لميزانياته الذي يمثّل أم المشاكل في كثير من دول العالم وعائقاً من معوقات إصلاحه وتطويره بما يحقق الطموح المتجدد لا يمثّل مشكلة في نظامنا التعليمي الذي يشهد إنفاقاً سخياً من قِبل الدولة، حيث يذهب ربع الميزانية على الأقل لصالح قطاع التعليم.. ويبلغ متوسط الإنفاق على الطالب السعودي 19600 ريال، وهو ما يزيد على ما ينفق على الطالب في كثير من دول العالم التي تقع اليوم على رأس هرم النظم التعليمية عالية الأداء.. وعندما رجعت إلى الرقم المعتمد للتعليم في ميزانية هذا العام والذي بلغ 168 مليار ريال وجدته يفوق إجمالي الميزانية العامة للدولة عام 1994م وهو ما يعادل ميزانية ست دول عربية من الوزن المتوسط”!
كما أشار وأشاد بتوافر الإرادة السياسية الصادقة لبناء الإنسان باعتباره الثروة الحقيقية للأمم، والمورد الأكثر تجدداً وغير القابل للنضوب، وميزانيات التعليم التي تعتمدها الدورة تعبّر عن توجه حقيقي للاستثمار في رأس المال البشري مما جعل التعليم في مقدمة أولوياتها كسياسة عامة، ويحظى بهذه الرعاية من الأولوية من كافة أركان الدولة وفي المقدمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي تبنى ودعم وتابع وما زال مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير التعليم، إذ إنه (التعليم) في نظر العقلاء المنصفين هو خيارنا المستقبلي والتحدي الوطني الأهم، والذراع الذي به نناوش المستقبل، فإذا كانت المعضلات الكبرى والإشكاليات المعيقة للنظم التعليمية في مختلف الدول وعلى مر التاريخ كما تؤكّد الدراسات المتخصصة تتمثَّل في نقاط ثلاث هي: الإطار المرجعي المعبر عن فلسفة المجتمع، والإرادة السياسية الصادقة، والتمويل اللازم .فإن ذات النقاط الثلاث - بحمد الله - هي الميزات الحقيقية الراهنة لنظامنا فأين المشكلة؟! وما واجبنا؟ ومع بساطة هذا السؤال ومحدودية كلماته إلا أنه يتجذّر في نخاع تعليمنا العالي منه والعام وللأسف الشديد وكل يعطي من رأسه صوت، وكل يتحدث حسب عرفه - كما يقال - وكل يجتهد في موقعه، ولكن في المقابل الكثير منا يقبع في دائرة التشاؤم المبني على استخلاص رؤيته ونظرته هذه من الواقع الشاخص بين عينيه يراه كل صباح وعند حلول المساء عندما يبدأ يراجع مع صغاره ما درسوه في داخل أروقة مدارسهم خاصة من اطلع على التجارب العالمية وعرف الواقعين ومن ثم سنحنت له الفرصة لعقد المقارنات ولو كانت سريعة بين هذا وذاك! وحتى أولئك الذين لم يكن منهم هذا الأمر فإنهم يقارنون بين تعليمنا النظامي القديم منه والحديث.. ترى هل التعليم لدينا إلى هذه الدرجة من السوء؟! وإذا كان كذلك فما هو الحل؟ وهل هناك فجر صادق قريب؟! أتمنى ذلك، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.