إن الهند من الدول التي اعتادت على الحركات الاحتجاجية، والإضرابات عن الطعام، والتعبئة الجماهيرية للمواطنين حول قضية شعبية.
ولكن صيام أنا هازاري (الزعيم الغاندي) مؤخرًا، الذي بلغ ذروته في جلسة استثنائية عقدها البرلمان لتمرير القرار الذي نزل عند مطالبه الرئيسة، كان بمثابة خروج درامي على سياسة البلاد.
إن ظاهرة هازاري تعكس «عاصفة كاملة» من العوامل المتلاقية: الاشمئزاز الواسع النطاق من الفساد، وخصوصًا بعد حالتين من الفساد بين مسؤولين رفيعي المستوى (في تخصيص سلسلة الاتصالات، ومنح العقود الخاصة بدورة ألعاب الكومنولث)؛ والمهارات التنظيمية لمجموعة صغيرة من الناشطين الذين تعهدوا بتغيير ممارسات الحكم في الهند؛ وبحث وسائل الإعلام الجماهيرية الدائم عن قصة جاذبة؛ وتوفر شخصية تتمتع بالقدر الكافي من الاحترام والتبجيل لتجسيد القضية. وهذا يثير أيضًا تساؤلات بالغة الأهمية حول دور المجتمع المدني في دعم الديمقراطية.
لقد صام هازاري لإرغام الحكومة على إنشاء سلطة جديدة قوية مختصة بمكافحة الفساد (لوكبال)، وتتمتع بصلاحيات واسعة لإجراء التحقيقات وعقد المحاكمات والعقاب. وعندما وجد أن مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة لم يكن قويًا بالقدر الكافي، طالب بإضافة مواد من شأنها أن تمنح تلك السلطة الجديدة الاستقلال الكامل، والحضور المكثف في كافة الدوائر الحكومية، والسلطة على جميع موظفي الحكومة، بما في ذلك رئيس الوزراء نفسه. والعجيب في الأمر أن الحكومة تجاهلت كل مخاوفها من أن تتسبب بعض مقترحات هازاري في خلق مؤسسة خارقة وغير خاضعة للمساءلة أو الطعن فيها أو إصلاحها أو إلغائها رغبة منها في استرضائه. فإذا كانت الهيئات الحالية المكلفة بمهام المنع والمراقبة والتحري تُعدُّ عُرضة للفساد، فما الذي يضمن أن تكون المؤسسة الجديدة أكثر قدرة على المقاومة؟ وإذا زحف الفساد إليها، فما الذي يمكن القيام به حيال ذلك، إذا ما علمنا أن لوكبال سوف تكون بمثابة قانون في حد ذاتها؟
من الواضح أن هذه التساؤلات نحيت جانبًا تحت ضغط المشاعر الشعبية، التي تصاعدت إلى أقصى درجاتها بفعل التغطية الإعلامية المستمرة، وخصوصًا بواسطة القنوات التلفزيونية الإخبارية المفرطة النشاط التي بلغ عددها 81 قناة. عندما أنهى هازاري صومه الذي امتد 12 يومًا، أظهرت مؤشراته الحيوية علامات التدهور، الأمر الذي أدى إلى مخاوف جادة من تعرض حياته للخطر لو لم يتم إقناعه بالتخلي عن احتجاجه، وما كان ليترتب على ذلك من عواقب وخيمة على النظام العام.
إن القرار الصادر عن البرلمان الذي حل تلك الأزمة لا يقضي في واقع الأمر بإنشاء لوكبال ـ فهذا لا يزال أمرًا يحتاج إلى تشريعات، بما في ذلك الدراسة المفصلة من قِبَل لجنة دائمة، فضلاً عن المزيد من المناقشات في مجلسي النواب.
ولكن حركة هازاري تعني ضمنًا تدخلاً سافرًا في العملية التشريعية. قد يزعم البعض أن المجتمع يصنع القوانين لتنظيم نفسه، وأن المجتمع المدني بالتالي يشكل مصدرًا للقانون. والواقع أن الديمقراطية الهندية تمنح المواطنين حقوقًا محددة لتمكينهم من ممارسة حرياتهم السياسية: فحرية التعبير وتكوين الجمعيات تسمح لأعضاء المجتمع المدني بحشد الجموع، والمجادلة والمناقشة، والمناظرة والانتقاد، والاحتجاج والإضراب، بل وحتى الإضراب عن الطعام، في دعم أو تحدي حكوماتهم. ويشكل كل هذا جزءًا أساسيًا من تعزيز المساءلة الحكومية بين الدورات الانتخابية. لن تجد هنديًا واحدًا قد يزعم جادًا أن الحقوق الديمقراطية للمواطن تبدأ وتنتهي بحق التصويت. ولكن تأثير المجتمع المدني على عملية التشريع لا بد وأن يكون محصورًا في التأثير الذي يفرضه على المشرعين المنتخبين. لا شك أن الضغوط البرلمانية الإضافية لا يمكن تجاهلها ببساطة.
ففي عام 1952، تراجعت حكومة رئيس الوزراء جواهر لال نهرو عن موقفها وشكلت لجنة لإعادة تنظيم الولايات في استجابة لإضراب عن الطعام من قِبَل الزعيم الغاندي بوتي سريرامولو، الذي طالب بإنشاء ولايات لُغوية (ومات بسبب إضرابه عن الطعام).
وفي عام 1956 أدى تقرير اللجنة إلى إعادة رسم الخريطة الإدارية والفيدرالية للهند بالكامل. ولكن تظل القاعدة الغالبة أن التشريع في الهند يستجيب للمجتمع المدني من خلال عميلة التشاور والمناقشة بين ممثلي الشعب المختارين من خلال انتخابات ديمقراطية. بيد أن هذه الآلية الدستورية توترت إلى حد كبير بفعل الأحداث الأخيرة. فبفضل هازاري اكتسبت فكرة قدرة الشارع على إملاء القوانين أرضًا جديدة.
في الديمقراطية البرلمانية لا يستطيع غير النواب المنتخبين صنع القوانين. ولا يجوز لنا أن نتجاهل ببساطة زعمهم بأنهم يمثلون الناس الذين منحوهم أصواتهم لصالح هؤلاء الذين لم يكتسبوا الحق في تمثيل الناس من خلال انتخابات ديمقراطية.
والواقع أن الوصول إلى اقتناع بأن القدرة على حشد الجماهير أو اجتذاب كاميرات التلفاز لدعم قضية ما تكفي للحلول محل نتائج الانتخابات الديمقراطية يشكل في حد ذاته أمرًا بالغ الخطورة. فالسماح لأي مجموعة غير منتخبة، أيًا كانت الدرجة التي بلغتها من الفضيلة والمثالية، بالحلول محل الإرادة الشعبية، يشكل اعتداءً على أسس الديمقراطية.
إن النظام السياسي في الهند مبني على فكرة مفادها أن أي دولة، بصرف النظر عن حجم الاختلافات العميقة في الطائفة والعقيدة واللون والثقافة، تظل قادرة على الاحتشاد حول الإجماع الديمقراطي.
وهذا الإجماع يتألف من مبدأ بسيط مفاده أن الديمقراطية لا تتطلب الاتفاق على أي شيء غير القواعد الأساسية التي تحكم كيفية الاختلاف في الرأي. ولقد نجحت الديمقراطية الهندية لأنَّها حافظت على الإجماع حول كيفية إدارة الأمور من دون إجماع. والقوانين تنشأ عن عملية سياسية تعكس هوية المجتمع الهندي، الذي أصبحت الهند بفضل إعلامه الحر المزدهر، وجماعات حقوق الإِنسان النشطة، والانتخابات العامة القوية، مثالاً نادرًا للإدارة الناجحة للتنوع في العالم النامي.
والواقع أن الهند تكتسب «قوتها الناعمة» عندما تعمل منظماتها الحكومية بنشاط على الترويج لحماية البيئة ومحاربة الظلم. ولكن الخلط بين دور البرلمان ودور مؤسسات المجتمع المدني لا يفيد الديمقراطية بأي حال. وإذا أراد أعضاء المجتمع المدني أن يكون لهم صوت حاسم في التشريع وصنع القوانين، فمن الواجب عليهم أن ينظموا أنفسهم سياسيًا، وأن يخوضوا الانتخابات، وأن يدخلوا البرلمان ـ، حيث يمكنهم كتابة وتمرير القوانين التي يسعون إلى تمريرها في ظل الشرعية الدستورية التي تتطلبها الديمقراطية.
- نيودلهي - خاص (الجزيرة)