يلعب التعليم العالي دوراً كبيراً في تحديد مستقبل الأمم والأفراد ولذا يطمح كل منا إلى أن يلتحق أبناؤه بالجامعة ليس فقط للمكانة الاجتماعية التي يمنحها للخريج (فتقبله البنات حين يتقدم لهن في أنه على الأقل جامعي حتى لو كان فقيرا!)، بل لأن الطبقات الاجتماعية على اختلافها تجد فيه معبراً مناسباً لسوق العمل بما يساعد الحكومات أيضا على تنفيذ برامجها التنموية عن طريق جيوش التكنوقراط
من الموظفين الحكوميين الذي تنتجهم مصانع هذا التعليم في مختلف التخصصات والتي مهمتها مساعدة الحكومات على تنفيذ برامجها التنموية ثم بعد ذلك تلقي نظرة رحيمة إلى القطاع الخاص لتقذف إليه بما لا تحتاجه او تستوعبه كما هو حالنا اليوم.. فهو إذا مصنع دائم للتنمية البشرية التي لا يتوقف رحاها إضافة إلى كونه (كما يفترض في صلب تكوينه) أن يكون منتجا للمعرفة العلمية يطورها لمصلحة احتياجات المكان الذي يوجد فيه ويوجد الحلول المناسبة لمشكلاتها البيئية والصحية والاجتماعية.. إلخ، وهو أيضاً وأيضاً يفترض أن يقود المجتمعات المحلية إلى مزيد من النمو والتطلع وصناعة المعرفة عن طريق برامج التعليم المستمر وبما يتيحه من فرص تعلم دائمة تحقق مفهوم مجتمع المعرفة. نجد كل كلامي السابق بلا شك في كافة الأدبيات والكتب الكلاسيكية الرصينة التي يهمها أن تسجل وجود الظاهرة (اقصد هنا التعليم العالي في السعودية) وخصائصها ونتائجها بمنظور التسجيل التاريخي والعلمي الدقيق (الذي) يفترض منهجيا أن يحمي الظاهرة ويعزز مكانتها العلمية لكن هذا التحليل يبقى سطحيا ولا يتطرق أبدا للعوامل الداخلية الحقيقية التي ساهمت في بناء نظام التعليم العالي في المملكة فمن كتب في تاريخ أو تحليل النظام العالي في السعودية إما أنه كان يخاف من الدولة أو يخاف من المؤسسة الدينية حتى لا يستعدي رجالها ضده وبهذا فهو مضطر إلى إغفال العوامل (الحقيقية) التاريخية والسياسية التي أثرت في بنية هذا التعليم وحددت مظاهره الحالية وساهمت في بناء عملياته الداخلية ومخرجاته وبذا يلجأ الباحثون وخاصة في الجامعات (التي يطمح أعضاؤها ان ينتقلوا الى صفوف المواقع المؤثرة في الحكومة بعد عملهم في الجامعة كوزراء أو خلافه) إلى استخدام الأرقام والتواريخ واللعب بالإحصاءات لإيهام القارئ بصدقية منهجيتهم وعلميته فلا ننتبه كمتلقين إلى ماهو غير مضمن او مبسور من الحقائق السياسية والتاريخية والثقافية التي ساهمت في تشكيل الظاهرة المدروسة.
من هنا يأتي كتاب د. محمد الخازم متفردا وصارخا وجريئا بشكل يدهش التوقعات المحلية كما أدهشني. لله درك يا دكتور: أخيرا نطق المارد وتكلم. نعم لم يقصر الدكتور محمد العيسي (عميد كليات اليمامة سابقا) في كتابه الجميل حول التعليم العالي في الكشف عن الكثير لكن الكتاب الحالي للدكتور الخازم يضع أصبعه على الجرح مباشرة دون تدوير أو مواربة محللا دور القوى السياسية بالتصالح مع الدينية في صياغة ملامح الواقع الحالي لمؤسسات التعليم العالي في المملكة.
يقدم د. محمد الخازم في كتابه القيم (اختراق البرج العاجي: قراءة التحولات الجيوسياسية والتأثير الأيدلوجي في بنية وسياسة التعليم العالي السعودي) عن دار طويق 2011 في ظل حقائق بسيطة تؤكد على أهمية هذا التعليم للسعودية، حيث ان هناك أكثر من 60% من السكان مرشحون للالتحاق بمؤسساته خلال السنوات القادمة بحكم اتساع قاعدة اليافعين من سكان المملكة وكثرة الخريجين ذكوراً وإناثاً من التعليم الثانوي ولذا فهو يمثل آلة حقيقية تفرخ الملايين وهكذا وجدنا ان هذا التعليم خرج خلال ثلاثة عقود (من 1979 إلى 2007) 3 ملايين خريج منهم 2.3 مليون تخصصوا في مجالات العلوم الانسانية والتربوية والشرعية وتوزع الباقون بنسب ضئيلة على الصحة والعلوم.
يستعرض الكاتب نقاط التحول الرئيسية التي يرى أنها أثرت على بنية وعمليات نظام التعليم العالي في المملكة العربية السعودية معتبرا حركة جهيمان وثورة إيران في الثمانينيات هي نقطة التحول الأولى بنشاط رجال الصحوة بعد حرب أفغانستان وسيطرتهم على المناخ العام للبلد ومحاولة إلغاء مظاهر الحداثة وفرض التشدد السلفي الذي عكس نفسه في نوع ما يفتتح من تخصصات وجامعات فظهرت جامعة أم القري كما اشتد السجال بين الصحويين والحداثيين الذين تم تكفيرهم وتخوينهم وملاحقتهم داخل الجامعات بما كرس توجه الجامعات كافة إلى المحافظة أكثر ورفض قيم التحدث.
نقطة التحول الثانية: حرب الخليج وغزو العراق للكويت ودخول القوات الأجنبية لحماية المنطقة وتبني الحكومة موقفا مهادنا من القوى الدينية حتى تمرر ذلك وتغاضت عن البنية التعليمية والاجتماعية والثقافية لتسلم طوعا للتوجهات السلفية وفي تلك الفترة أي من 1981 حتى 1998 لم تنشأ سوى جامعة واحدة هي جامعة الملك خالد وأول جامعة تأسست بعدها كانت عام 2005 مما يعني انه خلال تسعة وثلاثين عاما (الفترة من 1975 -2005) لم تنشأ في السعودية سوى جامعتين أي جامعة واحدة كل عشرين عاما!!!
أدى ذلك إلى معاناة الجامعات في توفيرمقاعدكافية للراغبين وقلصت الميزانيات الحكومية المخصصة لهذا التعليم وصاحب ذلك مزيد من التشدد داخل الجامعات الذي ألغى برامج الترفيه بأنواعها وتعطلت البرامج الثقافية والحوارات والسجالات والأنشطة الجامعية ليكون كل ما يجري منطلقا من مدرسة فكرية واحدة هي السلفية المتشددة حتى أن مجلة نيتشر أشارت في دراسة لها عن البحث في العالم الإسلامي إلى ان المملكة لم تتقدم في مجال البحث العلمي على مدي عشرين عاما مقارنة بدول إسلامية أخرى كتركيا.
نقطة التحول الثالثة: كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أعقبها اتهام المملكة بتدريس الإرهاب ووفاة الملك فهد وتولي الملك عبدالله للحكم وهو ما أدى إلى ظهور مبادرات جديدة مثل التوسع الكبير في التعليم العالي وخاصة في المناطق حتى بلغت اليوم 28 جامعة وإنشاء جامعة المك عبدالله للعلوم في ثول وافتتاح جامعة الأميرة نورة وإعادة التوسع في برامج الابتعاث الخارجي وإعادة هيكلة بعض مؤسسات التعليم العالي وتوفير مزيد من الدعم للبحث العلمي.
كيف أثرت هذه التحولات التاريخية الكبيرة في مسار التعليم العالي من الداخل.. أي ماذا كان يحدث في أروقة الجامعات السعودية من أدلجة؟ تابعوني الأسبوع القادم.