التسامح من شيم الرجال الكرام، فهو يدل على عقلية فذة ونفس ناضجة تدرك أن المسلم يجب أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، وأن الإسلام عقيدة وسلوك، وإيمان وعمل،
وأن الدين هو المعاملة، كما تدرك الضعف البشري الذي يعتري بعض الناس، نتيجة لمحدودية ثقافتهم، أو سوء طباعهم، أو قلة حيلتهم، أو نفاد صبرهم، مما يجب علينا عند التعامل معهم الرفق بهم، واستخدام كافة السبل التي من شأنها تعديل طباعهم، وامتصاص غضبهم.
والتسامح الذي نعنيه هو التسامح الشامل الذي يسود بين الزوج وزوجته، وبينهما وبين أولادهما، وبين الأقرباء، وبين الإخوان والجيران، وعموم أفراد المجتمع، أي أنه خلة يجب أن يتصف بها كل فرد في المجتمع، ليسود التفاهم، ويتلاشى سوء الفهم، وتعم الناس أجمعين نعمة المحبة والوفاء والصدق والإخلاص، لكن بعض الناس - مع الأسف - الشديد قد يركب رأسه ويصر على رأيه، ويتصور أن التسامح واللين وعدم التعصب وكظم الغيظ من شأنها أن تقلل من قيمته وتزري بمقامه، وهذا بلا شك تصور خاطئ وفهم ناقص، أملاه سوء الظن بالناس، وعدم تقدير العواقب، والجهل بالمنهج السليم للحياة المستقرة الهانئة.
والتسامح الذي نعنيه أيضا وهذا موضوع مهم وحساس هو التسامح الذي يجب أن يسود في مسائل الاعتقاد في المجتمع المسلم، فليس من حق إنسان أن يزدري آراء الآخرين أو أن يتعصب لرأيه، وهناك أقوال مأثورة نجدها منثورة في التراث الإسلامي تدعو إلى التسامح مثل ما شاع بين المسلمين (اختلاف أمتي رحمة) وكان هذا سبباً في سعة الصدر بين أهل المذاهب المختلفة من حنفي وحنبلي وشافعي ومالكي إلى غير ذلك، وقد روي عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: (مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب) وهو قول لطيف يدل على قدر كبير من التسامح، ومن هذا القبيل أيضا ما شاع بين المسلمين من قولهم: (لا يُكفر أحد من أهل القبلة بذنب غير مستحل) أي أنه لا يجوز أن يكفر مسلم بارتكاب ذنب ما دام أنه غير مستحل له، ولهذا فإنه مهما اختلف المسلمون في المذاهب والآراء والأقوال لا يصح أن يكفر أحد منهم فيما هو محل للاجتهاد والنظر.
ولهذا أيضا فقد كانت نظرة الإسلام إلى الأديان الأخرى نظرة تسامح، فقد سمى اليهود والنصارى أهل كتاب، وسماهم أهل الذمة، وهما تسميتان في منتهى اللطف، والآيات التي وردت في القرآن الكريم في أهل الكتاب تدل على قدر كبير من التسامح، خصوصا في العهد المكي، فكان القرآن في ذلك سمحا كريما، وقد بني في أساسه على أن القرآن الكريم يؤيد الكتب السماوية، ويتفق معها في أغراضها، وأن الشريعة الإسلامية وارثة لما قبلها، ومكملة لتعاليمها وإن كانت قد نسختها (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير).
والإسلام يعترف بنبوة الأنبياء السابقين كنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ويقرر أن أساس أن تعاليمهم واحدة وكلها من عند الله - سبحانه وتعالى - فلا غرو بعد ذلك أن يكون الإسلام سمحا حتى لقد نصح أتباعه بأنهم إذا دخلوا في جدال مع اليهود والنصارى بشأن الدين جادلوهم بالحسنى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهانا وإلهاكم واحد ونحن له مسلمون).
وسار الفقهاء من المسلمين على هذه التعاليم في فقههم من حسن معاملة أهل الكتاب وأن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، ولهذا لا يجوز بأي من حال من الأحوال التعدي على غير المسلم، بل إنه يجب حمايته ما دام أنه قد جاء لديار المسلمين، للعمل وللمساهمة في البناء والإنتاج، وبناء على رغبة من استقدمه، لكنه لو أخطأ أو تجاوز حده، ففي هذه الحالة يعاقب بموجب الأنظمة والتعاليم المرعية في البلد الذي يعيش فيه، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك عالمية الدين الإسلامي، وسماحته، ورحابة صدره، وأنه الدين الخالد الذي ارتضاه الله - سبحانه وتعالى - للبشرية كافة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.