فاتسلاف هافيل، الذي توفي في الثامن عشر من ديسمبر-كانون الأول 2011، كان ذلك المفكر النادر الذي فرضت عليه السياسة نفسها فرضاً ولم يقتحم هو ذلك العالم. وفي عام 1998، عندما كان رئيساً لجمهورية التشيك، قدم لنا التأملات التالية في الفوائد التي عادت عليه والمخاطر التي تعرض لها على مسار حياته المهنية.
***
براغ -تُرى هل ينتمي المفكر- بحكم الجهود التي يبذلها للغوص تحت أسطح الأشياء، وإدراك العلاقات والأسباب والتأثيرات، حتى يتسنى له أن يتعرف على العناصر الفردية كأجزاء من كيانات أكبر، وبالتالي يستمد قدراً أعمق من الوعي بالعالم ومسؤوليته عنه - هل ينتمي إلى عالم السياسة؟
اسمحوا لي أن أعرض الأمر بهذه الطريقة: لقد تكون انطباعاً مفاده أنني أرى أن واجب كل مفكر يملي عليه أن ينخرط في عالم السياسة. ولكن هذا محض هراء. فالسياسة تستلزم أيضاً عدداً من المتطلبات الخاصة التي لا تتصل بغيرها من المتطلبات. وقد يلبي بعض الناس هذه المتطلبات؛ وقد لا يتمكن غيرهم من تلبيتها، بصرف النظر عما إذا كانوا من المفكرين أو غير المفكرين.
الواقع أنني على اقتناع تام بأن العالم يحتاج - اليوم أكثر من أي وقت مضى - إلى ساسة مستنيرين رصينين ويتمتعون بالقدر الكافي من الجرأة واتساع الأفق للنظر في الأمور التي تقع خارج نطاق تأثيرهم المباشر في المكان والزمان. نحن في حاجة إلى ساسة قادرين على - وراغبين في - الارتفاع فوق مصالحهم السلطوية الضيقة، أو المصالح الخاصة لأحزابهم أو بلدانهم، والعمل وفقاً للمصالح الأساسية للإنسانية اليوم - أي أن يتصرفوا كما ينبغي للجميع أن يتصرفوا، ولو أن أغلبهم قد يفشلون في هذا.
لم يحدث من قبل قط أن اعتمدت السياسة بهذه الصورة المفرطة على اللحظة الآنية، وعلى الأمزجة العابرة المتقلبة للجماهير أو وسائل الإعلام. ولم يسبق للساسة قط أن أكرِهوا بهذه الدرجة على ملاحقة الأهداف القصيرة الأمد والقصيرة النظر. ويبدو لي أن الحياة المهنية للعديد من الساسة تبدأ غالباً من نشرة الأخبار المسائية على شاشة التلفاز ذات ليلة، وتنتقل إلى استطلاعات الرأي العام في صباح اليوم التالي، ثم إلى صورهم على شاشات التلفاز في المساء. ولا أظن أن عصر وسائل الإعلام الجماهيرية اليوم قد يشجع على ظهور ساسة بقامة ونستون تشرشل على سبيل المثال؛ بل أشك في هذا كل الشك، ولو أن الأمر لا يخلو من الاستثناءات دوما.
والخلاصة هي أن عصرنا كلما كان مقلاً في دعم الساسة القادرين على التفكير في المستقبل البعيد، كلما أصبح هذا النوع من الساسة مطلوبا، وكلما بات من الواجب علينا أن نرحب في عالم السياسة بهؤلاء الأكثر ثقافة - على الأقل هؤلاء الذين ينطبق عليهم تعريفي. وقد يأتي الدعم لهذا التوجه من بين هؤلاء -بين آخرين- الذين لا يدخلون عالم السياسة أبداً، ولكنهم يتفقون مع أمثال هؤلاء الساسة في فكرهم، أو على الأقل يتفقون معهم في الطبيعة التي تستند إليها تصرفاتهم وسلوكياتهم.
أسمع بعض الاعتراضات: فلا بد وأن يكون الساسة منتخبين؛ والناس يصوتون لصالح أولئك الذين يفكرون على نفس النحو الذي يفكرون به. وإذا كان لأي شخص أن يحرز أي تقدم في عالم السياسة، فلا بد وأن ينتبه إلى الحالة العامة للعقل البشري؛ ويتعين عليه أن يحترم وجهة نظر ما نطلق عليه وصف «الناخبين العاديين». أي أن السياسي لا بد وأن يقوم بوظيفة المرآة سواء شاء ذلك أم أبى. فهو لا يجرؤ على الاضطلاع بدور النذير الذي يعرض الحقائق التي لا تعجب الناس، والتي يرى أغلب الناخبين أن الاعتراف بها - ولو أنه يصب في مصلحة الإنسانية - لا يحقق مصالحها المباشرة، بل وقد ينظرون إلى الاعتراف بمثل هذه الحقائق وكأنه مناهض للمصلحة العامة.
الحق أنني على اقتناع تام بأن الغرض من السياسة لا يتمثل في تلبية الرغبات القصيرة الأجل. إذ يتعين على السياسي أن يسعى أيضاً إلى كسب تأييد الناس لأفكاره الخاصة، حتى ولو لم تحظ بشعبية كبيرة. إن السياسة تستوجب إقناع الناخبين بأن السياسي يدرك أو يفهم بعض الأمور بشكل أفضل من إدراكهم وفهمهم لها، وأنهم لهذا السبب لا بد وأن يصوتوا له. وبهذا يصبح بوسع الناس أن يفوضوا السياسي بالتعامل مع قضايا لا يفهمونها - لأسباب متنوعة - أو لا يريدون تكليف أنفسهم عناء الانشغال بها، ولكن شخصاً ما لا بد وأن يعالجها بالنيابة عنهم.
لا شك أن كل محترفي إغواء الجماهير، أو الطغاة، أو المتعصبين، استغلوا هذه الحجة لدعم قضيتهم؛ فقد فعل الشيوعيون هذا عندما أعلنوا عن أنفسهم بوصفهم الشريحة الأكثر استنارة بين الناس، فانتحلوا لأنفسهم بموجب هذه الاستنارة المزعومة الحق في الحكم بصورة تعسفية.
إن فن السياسة الحقيقي هو فن الفوز بتأييد الناس لصالح قضية خيرة، حتى ولو كان السعي وراء هذه القضية قد يتعارض مع مصالحهم اللحظية الخاصة. ولا بد وأن يحدث هذا من دون تعويق أي من السبل العديدة التي قد نتمكن بالاستعانة بها من التحقق من تجسيد الهدف النهائي لقضية خيرة، فنضمن بالتالي عدم استغلال ثقة المواطنين لخدمة كذبة ما قد تؤدي إلى انزلاق الجميع إلى الكارثة في بحثهم الوهمي عن الرخاء في المستقبل.
يتعين علينا أن نعترف بأن هناك من المفكرين من يمتلكون قدرة خاصة للغاية على ارتكاب هذا النوع من الشر. فهم يُعلون فكرهم فوق الجميع، ويرفعون أنفسهم فوق كل البشر. فيوهمون مواطنيهم بأنهم إذا لم يفهموا عبقرية المشروع الفكري الذي يقدمونه لهم، فإن هذا يرجع إلى بلادتهم الذهنية، وعدم ارتقائهم بعد إلى القمم التي يسكنها أنصار مشروعهم. وبعد كل ما مررنا به في القرن العشرين، فلم يعد من الصعب أن ندرك حجم الخطورة التي يمثلها هذا الموقف الفكري - أو شبه الفكري. ولنتذكر جيداً كم عدد المفكرين الذين ساعدوا في تأسيس مختلف الدكتاتوريات الحديثة!
إن السياسي الصالح لا بد وأن يكون قادراً على الشرح من دون اللجوء إلى الإغواء؛ ويتعين عليه أن يبحث بكل تواضع عن حقيقة هذا العالم من دون أن يدعي أنه المالك الوحيد لها؛ وينبغي له أن ينبه الناس إلى الصفات الطيبة الكامنة فيهم، بما في ذلك الحس السليم بالقيم والمصالح التي تتجاوز النطاق الشخصي، من دون إظهار تفوقه أو فرض أي شيء على إخوانه من البشر. ولا ينبغي له أن يذعن لإملاءات وتقلبات المزاج العام أو وسائل الإعلام الجماهيرية، في حين يتعين عليه ألا يحاول أبداً عرقلة المراقبة المستمرة لتصرفاته.
وفي عالم السياسة هذا، يتعين على المفكرين أن يُشعروا الناس بوجودهم بطريقتين محتملتين. فبوسعهم - من دون أن يشعروا بالخزي أو المهانة - أن يتقبلوا منصباً سياسياً لاستخدامه في فرض ما يرون أنه الحق، لا أن يتشبثوا بالسلطة فحسب. أو بوسعهم أن يلعبوا دور حامل المرآة للقائمين على السلطة، فيحرصون على حمل أهل السلطة على خدمة القضايا الخيرة، ومنعهم من استخدام كلمات معسولة كستار لأفعال شريرة، كما حدث مع العديد من المفكرين في عالم السياسة في القرون الماضية.
خاص (الجزيرة)