هناك بيت من الشعر يعرفه الكثيرون من أبناء أُمتنا، وبخاصة من هم من الجيل الذي ينتمي إليه كاتب هذه السطور، وكثيراً ما ردَّدوه، وهذا البيت جميل السبك والمعنى، وهو:
رُبَّ يوم بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
ومن الواضح أن الصيغة الواردة فيه تفيد القلَّة. لكن اليوم المبكي منه والمبكي عليه لم يعد واحداً فقط، بل صار أياماً، ولم يعد البكاء من زعامة واحدة في قطر من أقطار الأُمة العربية، والبكاء عليها في ذلك القطر وحده، وإنما تَعدَّدت أمكنة الزعامات المبكي منها والمبكي عليها.
ولعلَّ العراق أوضح قطر من تلك الأقطار، انطبق عليها تمام الانطباق معنى ذلك البيت ومدلوله؛ فلقد شهدت خمسينيات القرن الميلادي الماضي بكاء الكثيرين من أبناء أمتنا من أيام زعامته حينذاك، ولاسيما في مواقفها تجاه قضايا الأمة العربية العامة، وكان في مقدمة ساسته وأبرزهم السياسي المحنك نوري السعيد، الذي كان في ريعان شبابه عروبي النزعة والهوى، ولذلك لم يكن غريباً أن فُصل من الكلية العسكرية في ظِل الدولة العثمانية، التي سيطر على مقاليد الأمور فيها غلاة لديهم ميول لتتريك مختلف الفئات المنضوية تحت لوائها، ولم يتمكَّن من العودة إلى تلك الكلية إلا بشفاعة الأمير عبدالعزيز بن رشيد، حاكم جبل شَمَّر حينذاك، لدى السلطان العثماني.
ومضت الأيام، وتغيرت الأمور السياسية في العراق، وأصبح الحكم فيه ملكياً هاشمياً، وإن كان لبريطانيا كلمة لا تعصى على ربوعه. وبعد فترة من توالي الوزارات فيه أصبح نوري السعيد الشخصية السياسية القوية المتنفذة في شؤونه، وكان من الخطوات التطويرية الاجتماعية التي تمت في عهده إنشاء مجلس الإعمار، الذي كان له دور كبير في التطوير العمراني والاجتماعي. ومن الإنجازات الإيجابية المرسخة لوحدة العراق التغلُّب على محاولة الانفصال الكردية، التي قادها الملا مصطفى البرزاني، وكان قائد الحملة التي تغلَّبت على تلك المحاولة سعيد قزاز الكردي الأصل، الذي كان وزيراً للداخلية. ونتيجة لذلك فرَّ البرزاني إلى الاتحاد السوفييتي؛ ليصبح معروفاً - فيما بعد - بالملا الأحمر، ولم يعد إلى العراق إلا بعد أن سيطر الشيوعيون في العراق على مقاليد الأمور في ظل الحركة العسكرية التي قضت على العهد الملكي عام 1958م.
كان نوري السعيد مقتنعاً بأن ما نتج من مؤتمر باندونج، عام 1955م، من ظهور كتلة عدم الانحياز لن يصمد أمام مجريات الأحداث العالمية، وأنه لا بد من الانحياز إلى أحد المعسكرين الشرقي أو الغربي المتواجهين حينذاك، وذلك ما أوضح وزير خارجيته الدكتور فاضل الجمالي في أثناء محاكمته أمام محكمة المهداوي، التي كانت مهزلة في كل جوانبها. ومن الواضح أن نوري السعيد ورجاله رأوا الانحياز إلى المعسكر الغربي، وهذا سبب من أسباب عدة جعل العراق ركناً أساسياً من أركان حلف بغداد. وكان ذلك الحف مرفوضاً رفضاً شبه إجماعي من قِبل العرب، قادة وشعوباً. وما كان موقف ذلك السياسي الداهية من العدوان الثلاثي الصهيوني - البريطاني - الفرنسي عام 1956م موقفاً محموداً بل إنه كان موقفاً شاذاً ممقوتاً.
وبما أن نوري السعيد كان المهندس الأكبر لسياسة العراق، التي اتضح عدم انسجامها مع تطلعات أكثرية العرب، أصبح هدفاً للنقد، لا من قِبل غير العراقيين بل من كثير من مفكِّري العراق أنفسهم، وكان في طليعة أولئك الشيخ الشاعر محمد رضا الشبيبي، وكان كاتب هذه السطور في المرحلة الثانوية من الدراسة عندما كتب قصيدة عام 1957م مُعبِّراً عن ألمه مما أصبحت فيه العراق قائلاً:
نوري السعيد يعبث في أرجائه
وكأنما هو حيَّة رقطاء
تخذ الدسائس والخداع سياسة
من وزرها دار السلام بُراء
ما حلف بغداد سوى مَثَلٍ لما
حادت به أفكاره الرَّعناء
لكن لشعب الرافدين مواقف
محمودة ومشاهد بيضاء
حُرٌّ وكيد الظالمين - وإن يكن
من نسج أرباب الدهاء - هباء
حُرٌّ ورايات التحرُّر رفرفت
وازَّينت لقدومها الأرجاء
ولم يمضِ على كتابة تلك القصيدة عام حتى قامت الحركة العسكرية التي قضت على الحُكْم الملكي في العراق ورجاله الذين كان في طليعتهم نوري السعيد. ولم يكن غريباً أن يتفاءل الكثيرون، ولاسيما الشباب، بقيام تلك الحركة، وكنت أحد أولئك الشباب؛ فكتبت قصيدة عنوانها «مولد الصباح»، ومن أبياتها:
في حمى الرافدين أشرق عيدٌ
فهنيئاً بصبح هذا العيد
ومنها:
أين من عاث في البلاد فساداً
وبنى الجور متقن التشييد؟
أين عبد الإله من كان يلهو
دمية في يد العدو اللدود؟
أين تلك السيوف تهوى على
الأحرار عسفاً من كل نوري السعيد؟
مزَّقت ثورة الأباة قوى الظلم
بيومٍ مُخلَّد مشهود
هكذا سُنة الحياة فلا شيء
بمُوهٍ جماح شعب مريد
وإذا الشعب رام أن يقهر الذل
ويقضي على حياة القيود
باركته السماء في مبتغاه
وتولت خطاه بالتسديد
ولم يمضِ عام على قيام تلك الحركة إلا وقد انطبق وضع العراق مع بيت الشعر، الذي ذكر سابقاً، وهو:
رُبَّ يوم بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
ذلك أن الشيوعيين سيطروا على مقاليد الأمور، وراحوا يسحلون خصومهم أو معارضيهم بالشوارع، وراح يقول الشاعر محمد صالح بحر العلوم عن رئيس الوحدة التي تمت بين سوريا ومصر عام 1958م:
اصبر على رأس فرعون تجده غداً
بحبل جُلّق أو بغداد منسحبا
أما شاعرهم عبدالوهاب البياتي، الذي رفعه من كُتّاب وطننا من رفعوه، فكان يقول عن خصومه غير الشيوعيين:
سنجعل من جماجمهم
منافض للسجاير
بل إن الأكراد من أتباع الملأ الأحمر، مصطفى البرزاني، الذين وقفوا مع من كانوا يُسمون أنصار السلام، قاموا بدفن التركمان المتعاطفين مع حركة الشواف في الموصل، عام 1959م، أحياء في كركوك، وقد ذكر ذلك الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم نفسه في إحدى خطبه عبر راديو بغداد عام 1962م، بعد أن تخلَّص من هيمنة الشيوعيين في العراق. وكان أن اجتمع وزراء خارجية الدول العربية في بغداد ذلك العام، وأعلنوا حلَّ المشكلات القائمة بينهم. وقد عبَّرتُ عن ذلك بقصيدة عنوانها «دعاة الصمت»، ومما ورد فيها:
هيَ ساحتي ما زال يغمرها الأسى
وهَمُ تتار الأمس لم يتبدلوا
بغداد ما برحت تجرُّ طيوفها
حُرٌّ يُمزَّق أو شهيد يُسحَل
مهما تناسيت المجازر والدِّما
كركوك لن ننساهما والموصل
مهما افتعلت أأستقر وموطني
ما زال يحكمه الزعيم الأوَّل؟
وطيوف أعمدة الضياء ويا لها
بجسوم أبطال التحرر تُثقَل
ومهرِّج الطاغين يصرخ فيهمُ
لتدقَّ مطرقة ويحصد منجل
دار السلام وما تغيَّر فوقها
إلا الأساليب التي تتشكَّل
وكانت نهايتها:
بغداد والوزراء فيك تجمَّعوا
ليدوِّنوا تزويرهم ويُسجِّلوا
قولي: تَكشَّفت الأساليب التي
أضفوا عليها ما يُضلُّ وأسبلوا
إن الخلاف على المبادئ حلُّه
هيهات أن يدنو إليه تَوصُّل
مهد التحرُّر والنضال وليس في
أفق التحرُّر للمدلِّس منزل
إن السكوت على الذيول خيانة
فعلى دعاة الصمت أن يترحَّلوا