لا يملك المواطن المحب لوطنه إلا أن يشعر بشيء من الرضا والحبور عندما يرى أن الدولة تعمل جادة على تعديل مسار عجلة السعودة من الاتجاه المعاكس إلى الاتجاه الصحيح. الاتجاه المعاكس يمثله فتح الأبواب والنوافذ لدخول العمالة الوافدة لأي نوع من العمل أو ربما لغير عمل،
والفائدة العاجلة من وراء ذلك هي أن تتوافر أعداد كثيرة بأجور زهيدة يطمع أصحاب الأعمال أن تكون وسيلة سهلة لجني أرباح وفيرة، لكن الخسارة الآجلة يتحملها الوطن والمجتمع بأسره. الخسارة تحصل من جراء تدفق الأموال التي يحولها العمال الوافدون إلى أوطانهم، ومن عزوف المؤسسات الخاصة -بما فيها تلك المتعهدة بتقديم خدمات للدولة- عن توظيف السعوديين، ومن تفشي التواكل والعجز والاعتماد على غيرنا في أعمالنا ومعيشتنا، وفوق ذلك من إحداث تغيير في التركيبة السكانية بما يتركه هذا التغيير من آثار على حياة المجتمع وثقافته. أما الاتجاه الصحيح فيتمثل في غلق النوافذ وضبط الدخول عبر الأبواب. فماذا يلوح في الأفق من محاولات جادة جديدة؟ لقد لاحت بالفعل مبادرة وزارة العمل من خلال تصميم وتنفيذ نظام (النطاقات). ذلك النظام الذي ينتهج أسلوب العصا والجزرة، فيكافئ من (يسعود) ويعاقب من يتهاون في السعودة. إن نجاح هذا النظام مرهون بالجدية والمتابعة في مراقبة تطبيقه، لأن خرقه ممكن ايضاً بشتى أنواع الالتفاف والتحايل. إلا أن ما يبعث على الاستبشار بهذه الخطوة العملية الجادة هو أن وراءها نظرة بعيدة تصوب نحو هدف مستقبلي محدد: ألا وهو حماية التركيبة السكانية.
فهذا هو ما يتضح من الخطة بعيدة المدى التي كشفت عنها - وفقاً لما نشرته (الاقتصادية) في عددها (6583) بتاريخ 22-11-1432هـ - وزارة العمل في أثناء اجتماع لوزراء العمل الخليجيين عقد في أبوظبي يوم 21-11-1432هـ. جوهر هذه الخطة هو تحديد سقف أعلى لعدد العمالة الأجنبية طويلة الأجل في البلاد بحيث لا تتجاوز نسبتهم 20% من العدد العام للسكان - في مسعى للمحافظة على التركيبة السكانية - كما ورد في الصحيفة. وبصرف النظر عن مقدار النسبة -هل قليل أم كثير أم متوازن- فإن الأهمية تكمن في تحديد هدف استراتيجي واضح المعالم تتجلى في ضوئه الغاية من إصدار نظام النطاقات وأية إجراءات ترمي للغاية نفسها ويصبح معياراً يقاس عليه مدى النجاح في التطبيق. هذا لا يمنع من التساؤل عما إن كانت تلك الخطوة لازمة حقاً. الجواب نعم. بل وحيوية لنهضتنا ومستقبلنا، غير أنه في مقابل هذه الضرورة الحيوية يبدو الهدف - في رأيي- متواضعاً. فإن الخطة -التي لم يتبين مداها الزمني في الخبر المنشور- تكتفي باستهداف النزول من نسبة 31% التي كشف عنها تعداد السكان عام 1431هـ إلى نسبة 20% كسقف أعلى للعمالة الأجنبية طويلة الأجل بعد استبعاد العمالة المؤقتة مما يجعل الخفض المتوقع أقل من 11%، حيث إن هذه العمالة المؤقتة محسوبة ضمن نسبة 31% التي كشف عنها التعداد، وقد سبق أن حدد مجلس القوى العاملة في عام 1423هـ سقفاً للعمالة الوافدة لا يتجاوز 20% من السكان حتى عام 1433هـ (د. عبدالواحد الحميد: السعودة أو الطوفان) وهذا متوافق مع أهداف خطط التنمية، إذ إن الإستراتيجية بعيدة المدى للاقتصاد الوطني التي أعدت لتكون إطاراً للخطط الخمسية الأربع - التي تبدأ بالثامنة عام 1426هـ وتنتهي بنهاية الحادية عشرة عام 1445هـ- توقعت أن تبلغ نسبة السعودة عام 1430هـ 24% من مجموع السكان أي بانخفاض 3% عن عام 1425هـ وفي عام 1435هـ 21% وفي عام 1440هـ 18% وفي عام 1445هـ 14% - ولم تستثن هذه الإستراتيجية أي نوع من العمالة، ومن هذا يظهر أن هناك مساحة كبيرة من عدم التوافق بين هذه التوقعات والواقع الفعلي الذي تجاوزها والذي صار همّاً يؤرق وزارة العمل فوضعت تلك الخطة القانعة بتحقيق هدف بعيد متواضع، هو ألا تتجاوز نسبة العمالة الأجنبية طويلة الأجل (!) 20% من مجموع السكان، فهل سيدوم المسوغ لاستقدام هذه العمالة وتشغيلها بأعداد تزيد مع زيادة السكان - إلى أبد الآبدين ما دامت النسبة لاتتجاوز 20% بدون العمالة المؤقتة؟ لا ينبغي أن نريح بالنا أو أن نخدع أنفسنا بالقول: إن الدخل القومي لدينا مرتفع (ومن ثم متوسط نصيب الفرد) فلا حاجة بنا لأن نكد ونكدح وأن نقوم بكل العمل والإنتاج بأنفسنا، بل لا بد أن نتذكر أن هناك دولاً أكثر منا دخلاً وأعلى منا في سلم التمدين وأقل منا في نسبة عدد الشباب إلى بقية السكان، ومع ذلك تحرص على أن تحافظ على تركيبتها السكانية، فهذه سويسرا أجرت استفتاء لتحديد سقف أعلى لعدد الأجانب لا يزيد عن 10%، وهذه ألمانيا يفزع بعض قادة الفكر والسياسة فيها أن تتعدى نسبة العمالة الأجنبية 8%، وأن هؤلاء لا يندمجون في المجتمع الألماني.
ونحن أيضاً من واجبنا أن نتنبه ! لقد ارتفعت نسبة غير السعوديين من 27% حسب تعداد 1425هـ إلى 31% حسب تعداد 1431هـ بزيادة ما يقارب ثلاثة ملايين عامل.
وكانت نسبة النمو السنوي لغير السعوديين خلال السنوات الست (5.4%)! بينما هي للسعوديين (2.1%). ولو استمر النمو على هذا المنوال فإن نسبة غير السعوديين تصبح بعد خمس وعشرين سنة 56% من السكان، والسعوديون 44%!
هذا فيما يخص البعد الزمني، أما إذا أدرنا البصر على أرض الوطن في الوقت الحاضر فسوف نجد أن نسبة غير السعوديين في المدن الأربع الكبرى بالمملكة (الرياض - جدة - مكة المكرمة - الدمام والخبر) تتراوح بين 40% و50%! أما عند النظر إلى الهرم السكاني فإن بيانات مصلحة الإحصاءات العاملة عن عام 1428هـ تدلنا على أن نسبة الذكور غير السعوديين في سن العمل (أي من 20-59سنة) تبلغ 47% من مجموع الذكور في الفئة العمرية نفسها من السكان - علماً أن من بين هذه الفئة من السعوديين طلاب وأفراد مصابون بإعاقات تمنعهم من العمل وعاطلون.
من كل هذه الأرقام والنسب يتبين أن حماية التركيبة السكانية هدف نبيل ولكن المهمة ليست سهلة. إذ لا بد من اتباع سياسات من شأنها أن تضعف المسوغ للاستقدام، وما تطبيق نظام النطاقات إلا واحد من هذه السياسات التي يرجى منها أن تسهم في إنجاح المهمة، لكنها قد تصبح غير فعالة بدون تطبيق حزمة متكاملة ومتزامنة من السياسات - مثل سياسة الأجور، وتعميق ثقافة العمل والالتزام وإزالة النظرة الدونية للأعمال الحرفية، وإزالة العوائق أمام عمل المرأة، وترشيد الاستهلاك في السكن والمعيشة والترفيه، والتشدد في تحديد أغراض الاستقدام، وإعادة النظر في نظام الكفيل، وفرض الحدود الدنيا من الأجور وبيئة العمل والسكن اللائق بالعامل الوافد حتى لا تكون التكلفة المتدنية مغرية بالاستقدام. تلك السياسات وأمثالها معلومة للجميع ولكن لا يطبق إلا بعضها وعلى استحياء أيضاً. ويمكن إرجاع ذلك إلى أن مسئولية تنفيذها متفرقة بين عدة جهات ذات اختصاصات مختلفة. ومن المؤكد أن فاعلية هذه السياسات سوف تتضاعف عندما تتضافر جهود هذه الجهات وتنسق فيما بينها بحيث يتم الالتزام بالتنفيذ المتزامن، بعض تلك السياسات التي تركز على العنصر الوطني مثل تعميق ثقافة العمل والالتزام وإزالة النظرة الدونية لبعض المهن - تتميز بالصعوبة إذ إنها تواجه ثقافة متخلفة عميقة الجذور ساعد على ترسيخها عاملان: أولهما العيش المريح في الوسط العائلي، حينما لا يكون الشاب نفسه مسئولاً عن إعالة أسرته - فلماذا يشقي نفسه بالانتظام في عمل متعب أو بعيد المقر مادام يأكل ويشرب وينام مستريحاً في بيت أهله؟ وثانيهما الانقياد للوسط الاجتماعي الذي يعيش الشباب فيه مقيداً بمفاهيم نمطية ومعلقاّ داخل شبكة علاقاته، فهو يرى أكثر أقرانه ومعارفه يعملون قليلاً ويستهلكون كثيراً، لا يبالون بماذا أنجزوا في أوقاتهم بل بما أضاعوا فيه أوقاتهم.
لا شك أن انتزاع هؤلاء الشباب من هذه البيئة غير المنتجة يتطلب جهداً خارقاً، وفي مجال المهن الصناعية فإن المدن الاقتصادية (أو الصناعية) التي نسمع عنها قد تفلح في نقل بعض شبابنا من البيئة التي اعتادوا عليها إلى بيئة جديدة مغايرة تحمل عناصر جذب فعالة مثل السكن ووسائل الترفيه والتثقيف والتأهيل المهني والأجور المجزية، وتشكل بؤراً للعمل المنتج مثل النموذج الذي قدمته لنا أرامكو - ولا تزال تقدمه منذ أكثر من ستين عاماً.
وفي غير المدن الصناعية - ولكل المهن - توجد فرص كبيرة لدفع الشباب إلى العمل الجاد المتقن الذي يبطل المسوغ للاستقدام. وفي هذا الشأن لا بد من الإشارة إلى مبادرة أخرى متميزة وفعالة تمثلت في إنشاء معهد متخصص لتدريس مائتي فتاة سعودية بالتعاون بين مؤسسة الصناعات الحربية وبرنامج الشراكات الإستراتيجية الذي ترعاه وتشرف عليه المؤسسة العامة للتدريب التقني والفني، وبذلك تتخلى وزارة الدفاع - كما جاء في عنوان الخبر الذي نشرته جريدة الرياض في عددها 15833 وتاريخ 3-12-1432هـ - عن المقيمين وتبدأ بتشغيل السعوديات في صناعة الملبوسات العسكرية. وهذا يعني تأهيل العاملين بالمشاركة مع صاحب العمل وطبقاً لاحتياجاته - مما يعطي نموذجاً مثالياً للسعودة. إن هذا بالطبع لا يكفي إذا لم يقترن بأمور أخرى أهمها: إتاحة فرص الترقي في الوظيفة ومن ثم زيادة الدخل، وتطور المستوى المهني بالتدريب المتواصل على رأس العمل وإعطاء المزيد من الحوافز والتقدير للمهارات المكتسبة والإنتاجية وليس فقط للشهادة الدراسية، وتنظيم ظروف العمل بما يضمن حق الشباب العامل في التمتع بحياته الاجتماعية، وغير ذلك من الفرص التي تجعل الشاب يرى أمامه مهنة ذات مستقبل.
إن ذلك ليس شيئاً مطلوباً من المؤسسات والمرافق الحكومية وشبه الحكومية فقط، بل ايضاً من القطاعات الأهلية الخدمية والتجارية.
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم...).