عنوانُ حديث اليوم مقتبسٌ من كتاب صدر لي قبل حين يحمل ذاتَ العنوان يضمُّ نصوصَ لقاءاتٍ أدبية وفكرية وإنسانية شُرفْت بها مع بعض المطبوعات المحلية، وكان الغرضُ من إعادة نشرها في كتاب الخشية من سطوة الزمان وغَدر المكان، لتَتَحّولَ بعد حين إلى ركامٍ من النسيان!
أقول هذا تأكيدا لموقف شخصي إزاء هذه اللقاءات، وهو أنني أعتبر كل مفردة فيها (نبضاً) نطق به قلبي، و(نغماً) دندن به لساني، و(شعاعاً) توهجت به عيناي في لحظة احتفاء شعوري بأسئلة كل لقاء. لذا، أحرصُ ما وسعني الحرصُ على تكريس قدر كبير من الوقت والجهد للردَّ على تلك الأسئلة، الواحد تلو الآخر، عبر خُلوة تجمعُني بنفسي والسؤالِ وثَالثِنا القلم، حتى أفرغَ من إعداد (مسودة) الردود على الأسئلة وطباعتها، ثم أعيدُ النظر فيها تنْقِيحاً وتصحيحاً وطباعةً أكثر من مرة، محاولاً بذلك تصوّرَ نفسي (قارئاً) ناقداً لتلك الردود حريصاً على نقائها من أي شائبة في اللغة أو قصور في التعبير أو لبس في المعنى!
من هنا جاء اهتمامي بتدوين هذه اللقاءات حفظاً لها من (أرْضَه) الإهمال، ثم لا اكتفى بذلك، بل (أزوُر) هذه الردودَ بين الحين والآخر، وكأنني أقرأُها لأول مرة، فتارةً تسعدني الزيارة (إعجاباً) بردَّ ما، وأخرى أتمنَّى لو كان رداً آخرَ مختلفاً، صياغةً ومعنى!
الآن، استأذن القارئ الكريم بعرض مقتطفات من (ردود) أفرزَتْها زياراتٌ متقطعة لبعض اللقاءات السابقة، وجدت فيها نبضاً يتجدَّد من الصدق ومن الإقناع بقدرة الكلمة على ترجمة ذلك النبض بلغة مشبعة بدفء بالإحساس ! وهذه نماذج من تلك الردود:
(1)
الإدارة شيءٌ من علم وكثيرٌ من فن، ولن يحقَّقَ التوأمةَ بينهما سوى الموهبةِ المطرّزةِ بحُسْن التدبير وتَوظيفِ (شعرة معاوية) في التعامل مع الآخرين !
(2)
سُئلتُ في ذات لقاء عن السياق اللاَّهثِ الذي يتكبَّدُه بعضُهم أملاً في الظفر بشهادة الدكتوراه، فقلت:(إنّ حرف (الدال) متى تحقق لصاحبه وفق منهج علمي وحضاري سليم، فإنه ليسَ (وساماً) يتّشِحُ به اسمُ صاحبهِ وكَفَى، ليغْدوَ جُزْءاً لا يتَجزّأُ من هويته، حياً أو ميتاً، لكنه محطة من الإنجاز العلمي تَتَربّص بها التحدّيات القادمة في الميدان، فالشهادةُ إذاً (بدايةُ) مرحلةٍ لا (نهايةُ) مشْوار، ومن رأى غير ذلك، فإنه لا يظلم (الحرف) نفسه فحسب، بل يظلم حامله.. والمجتمع الذي يترقب نتائج إنجازه، عملاً مشهوداً ومحموداً!
وأتذكر بهذه المناسبة مْوقفاً طريفاً شَهدتُه قبل نحو عام وأنا على متن طائرة متّجهة من الرياض إلى جدة، حين دنَا مني شَابٌ أعرفه، فسلم وأستأذن للجلوس إلى جانبي فرحّبتُ به، وسألتُه: (ماذا تفعل الآن؟) فقال: إنني أعمل موظفاً في أحد الأجهزة الحكومية، لكنّني في الوقت نفسه أدرس لنيل (درجة الدكتوراه).. قلت له مازحاً: (دكتوراه مرة واحدة)؟ فقال، وقد كسا وجهَه حماسٌ مسْتطيرٌ، «نعم.. لقد باتت هذه الدرجة ضرورةً (للزحف) على المناصب العليا في الحكومة، ولن أكتمَك سراً إذا قلت: إنني (أهيّئُ) نفسي لمنصب (وزير) يوماً ما بإذن الله». ابتسمت لقوله مشجَّعاً، ودَعوتُ له بالظّفر في مشْروعِه الوزاري.
(3)
وسُئِلتُ مرةً عمّا إذا كانت الكتابة هي التي تقدمني للقارئ أم المنصب الوظيفي الذي أشْرفُ بشَغْله، فكان ردَّي أنني لا أرى علاقَةً للمنصب بالكتابة والعكس صحيح، فلكلّ منهما مدارٌ مسْتقلّ يسِيرُ في فلكه!
نعم.. يشرّفنُي أن يعرفَني القارئُ كاتباً قبل المنصب ومعه وبعده! وهو ليسَ في تقديري (وسيلةَ) كسبٍ أو جَذْبٍ أو تمدُّدٍ على بسَاط الوهج الاجتماعي، بقدر ما هو تشريفٌ لصَاحبه وتكْليف، لكن ما يربطُني بالقارئ هو الكلمة التي تَتّكئُ على الحقيقة والفضيلة والجمال، ولا شيء سوى ذلك. والقارئُ الحقُّ لا يهمه من أمر كاتبه مَنْ يكونُ أصلاً وفَصْلاً ونسَباً ومنْصِباً، ولكن ماذا يكتب وكيف؟! وأُضِيفُ اليوم قائلاً إنّ من أخطر الأمور في هذا الصوب أن تَخْتلطَ (أوراقُ) المنْصبِ بمَدادِ الكتابةِ، فيُسَاء إلى الأول.. ويبور الثاني!!