تباطأت في قراءة هذا الكتاب للأستاذ (أمين معلوف).. الكاتب العربي اللبناني المعروف، صاحب الجذور الصحفية العريقة والعريضة: من ملحق صحيفة (النهار) البيروتية الاقتصادي.. إلى رئاسة تحرير (مجلة النهار الدولية).. فرئاسة تحرير مجلة (جون آفريك) الفرنسية الشهيرة- بعد رحيله إلى باريس عام 1976م واستقراره فيها - التي كنت أنتظر صدورها يوماً إثر يوم.. مترجمة -
ما يهم قارئي مجلة (اقرأ) في زماناتها - من الفرنسية إلى العربية، رغم جاذبية عنوان الكتاب: (سمرقند).. الملفتة والمتلاقية مع اهتماماتي، وشغفي بقراءة كل ما تقع عليه عيناي من أخبار وأحاديث وقصص عن تلك المدن التاريخية العربية والإسلامية العريقة واللامعة.. التي أحاطها قدماء المؤرخين وكبارهم - وهم على حق - بالكثير من المهابة والعظمة والجلال، وهم يتحدثون عنها وعن تاريخها وقصصها وما شهدته أيامها ولياليها من أحداث كغرناطة وطنجة وحلب وكربلاء ومأرب وطاشقند.. وهذه المدينة العظيمة والتي يحتل اسمها: (سمرقند) عنوان هذا الكتاب.. وإن جاء تحته عنوان صغير خافت قد لا يراه المتعجلون، في كلمة واحدة.. (رواية)!
في البدء.. ذهب اعتقادي، بأن «سمرقند» أو رواية سمرقند.. قد لا تكون مختلفة عن روايات الأستاذ «جورجي زيدان» الإسلامية الكثيرة كـ «عذراء قريش» أو «عروس فرغانة» أو «غادة كربلاء» أو «فتاة القيروان».. التي بهرت قراءها في مصر، والعالم العربي طوال ما يزيد عن النصف الأول من القرن الماضي، والتي وإن كُتبت بصورة روائية درامية إلا أنها التزمت بحقائق الإسلام التاريخية ولم تحد عنها.. حتى حسب عامة القراء أن (كاتبها) شيخ أو فقيه إسلامي أديب، وربما.. صاحب (حضرة) من حضرات حي (السيدة زينب) الشهير في وسط القاهرة، وأن عليَّ أن أتنازل في هذه الحالة الافتراضية.. عن بعض أو كل ما كنت أحلم به أو أبحث عنه من أحاديث عن «سمرقند» المدينة، وتاريخها الاجتماعي وأحيائها وحياتها وحدائقها ومغانيها وأهم معالمها.. كسكة حديد (سيبيريا) العابرة بها، وأبرز شخصياتها الدينية كالإمام البخاري.. صاحب أول الصحاح الست وأهمها، الذي ولد ودفن بها، فأصبح «مسجده» جامعاً للصلاة والتوحيد، و»مقبرته» معلماً من معالم المدينة.. ومزاراً من أهم مزاراتها، أو عن أعظم منشآتها العمرانية.. كـ «قيام» أول مصنع للورق بها في منتصف القرن الثامن الميلادي، أو عن دخولها الإسلام في القرن نفسه.. ونموها السريع الذي جعل منها عاصمة للحضارة العربية الإسلامية في آسيا الوسطى، أو ملتقى لـ «حضارتي» الغرب والشرق - أو الغرب والصين -، أو عن من مروا بـ «تاريخها» السياسي من الفاتحين كـ»الإسكندر الأكبر» - قبل الميلاد، أو الغزاة كـ «جنكيز خان» الذي دمرها وخربها في القرن الثالث عشر، إلى أن احتلها «تيمور لنك».. وأقام فيها إمبراطوريته، التي سرعان ما تفككت.. في القرن الخامس عشر، ليحكمها (الأزبك) إلى عام 1920م.. عندما دخلت تحت عباءة جمهوريات الاتحاد السوفييتي الاشتراكية بعد قيام ثورة أكتوبر اللينينية عام 1917م.. فعودتها لـ «الاستقلال» بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وقيام (جمهورية أوزبكستان) المستقلة..
لكن الكتاب - أو الرواية - الذي أهداه الأستاذ المعلوف لـ «والده» فاجأني ومنذ صفحته الأولى بأنه سيتحدث قليلاً عن غرق الباخرة الشهيرة والعملاقة (تيتنك) الذي أبكى العالم كله عند حدوثه في الثاني عشر من إبريل من عام 1912م في (عرض مياه الأرض الجديدة)..
حيث (كان أعظم الضحايا وأعجبها كتاباً هو نسخة فريدة من «رباعيات عمر الخيام») العالم الكيميائي والفلكي والفيلسوف الشاعر، وهو الذي سيتحدث عنه الكتاب - أو الرواية - كثيراً.. باعتبار أن قصة غرق الباخرة الأعجوبة في بنائها وتصميمها وفخامتها وقوتها التي لا تضاهى، قد عرف بها العالم في حينه، أما قصة فقد تلك النسخة الفريدة من (الرباعيات).. وحسرة من كانت معه على ظهر (التايتنك) من الناجين (وهو.. بنجامين عمر لوساج).. وحلمه في العثور عليها مجدداً من ظلمات البحر، ومن ثم إخراجها من حرز صندوقها الذهبي المحكم، والاطلاع عليها ومعرفة حياة الشاعر وأبياته الأولى وأحزانه الأولى ومخاوفه الأولى.. فهو ما سيتحدث عنه مطولاً، وقد فعل الكاتب - أو المؤلف - ذلك على مدى ثلاثمائة وخمس وستين صفحة.. هي عدد صفحات الكتاب - أو الرواية -، دون أن ينسى شد قارئه لمتابعة (الرواية).. وكأنه قد تم العثور عليها من قبل (بينجامين) أو غيره، بل وتم تقليب صفحاتها بحيث عرف أنها (لا تحمل تاريخاً ولا توقيعاً، ولا شيء غير هذه الكلمات المتحمسة: سمرقند، أجمل وجه إدارته الدنيا يوماً نحو الشمس) التي كتبها (الخيام)، أما كيف تم العثور على تلك النسخة الفريدة.. من رباعياته، فإن على القارئ أن يغوص في تلك الصفحات.. ليعلم بتفاصيل مراحلها.. بـ «إشراقاتها» القليلة و»مكابداتها» الكثيرة وإلى أن يتم وصوله إليها مع آخر صفحات الكتاب أو الرواية.
لكأن فألي قد خاب في العثور على أحاديث الحياة والناس والأمكنة والذكريات عن تلك المدينة القديمة والعظيمة (سمرقند).. لكن المعوض عن ذلك كان فائق العظمة دون شك، فقد وجدت في الكتاب - أو الرواية - قصة حياة ذلك العالم الفذ.. وشاعر الرباعيات الملهم (الخيام) بكل أمجادها ونكباتها..!!
لقد مضى على غرق (التايتنك) قرابة مائة عام، وعلى موت (الخيام) عشرة أضعافها تقريباً.. فإذا كان العالم قد نسي خلالها في (الخيام) عالم الفلك والكيمياء الذي عاش (طفولته) في «نيسابور» - عام 1048م -، وشبابه في «سمرقند»، وصيته في «أصفهان»، وموته في «بلخ» عام 1131م عن أربعة وثمانين عاماً من العظمة والأحزان والمكابدات والإجلال..
فإنه لم ولن ينسى فيه (الشاعر) صاحب تلك الرباعيات الفذة، الذي كان أول من وقع عليها وقام بترجمتها إلى الإنجليزية الشاعر «فيتزجرالد» عام 1859م حين كانت الكتابة عن الفرس من ميراث ذلك العصر، إلا أن طلائع مثقفي العالم العربي وليس عامتهم لم يتعرفوا عليها ويهتدوا إلى نصوصها الجميلة الرائعة إلا بعد أن قام بترجمتها عن الإنجليزية الأستاذ «وديع البستاني» عام 1932م، لتتلاحق ترجماتها مجدداً - عن ذات الأصل الإنجليزي الوحيد - على يد الشاعر «أحمد صافي النجفي».. فـ «محمد السباعي»، فـ «أحمد حامد الصراف».. فـ«عبدالحق فاضل»، لكن ترجمة الشاعر الأستاذ أحمد رامي.. عن أصلها الفارسي بعد أن عاد من بعثته إلى «السوربون» لدراسة اللغات الشرقية، واختيار (أم كلثوم) لخمس عشرة رباعية منها.. لتغنيها بألحان عبقري الموسيقى العربية وأميرها الأستاذ رياض السنباطي.
فقد أعطى شعر (الخيام) ورباعياته إجمالاً نفحة خلود لم يطلها إلا القلة من الشعراء، فقد جعل منها معشوقة الجماهير العربية باتساعها.. من المحيط إلى الخليج.
أما تلك الخمسة الأخيرة منها.. فقد دفعت عن الشاعر معظم تهم الإلحاد والزندقة إن لم يكن جميعها، التي كانت تلاحقه.. وهي تطارده من أرض إلى أرض.. ومن بلد إلى بلد،
وهي التي تبدأ بهذه المناجاة الخيامية:
يا من يحار الفهم في قدرتك
وتطلب النفس حمى طاعتك
أسكرني الإثم ولكنني
صحوت بالآمال في رحمتك
إن لم أكن أخلصت في طاعتك
فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي أنني
قد عشت لا أشرك في وحدتك
تخفى عن الناس سنا طلعتك
وكل ما في الكون من صنعتك
فأنت مجلاه وأنت الذي
ترى بديع الصنع في آيتك
أن نفصل القطرة من بحرها
ففي مداه منتهى أمرها
تقاربت ياربي ما بيننا
مسافة البعد على قدرها
ثم يختتم مناجاته العظيمة تلك.. قائلاً:
يا عالم الأسرار علم اليقين
وكاشف الضر عن البائسين
يا قابل الأعذار عدنا إلى
رحتمك فاقبل توبة التائبين
لقد كتب الأستاذ المعلوف روايته هذه - أو كتاب - سمرقند.. بـ«الفرنسية» ثم ترجم إلى العربية.. كما هو شأنه.. منذ أن انتقل من الصحافة إلى الأدب، واختار باريس للإقامة والعيش فيها.. وبدأ رحلته مع الأدب يكتايه الأول (الحروب الصليبية كما رآها العرب) - 1988..
فـ «رواية» ليون الأفريقي عام 1990م.. فهذه الرواية - أو الكتاب - عن (سمرقند) عام 2001م، إلا أنه كان من أكثر الكتاب والأدباء العرب الذين يكتبون بالفرنسية - ويدعون بالفرنكوفونيين.. وأرجو أن لا يغيظه.. هذا - حظوظاً في حصد العديد من الجوائز الأدبية الفرنسية الثمينة والرفيعة الشان حقاً، فقد حصل على جائزة (غونكور) و(بول فلات)، ثم تم اختياره - أو انتخابه - في مطلع هذا العام لعضوية (الأكاديمية الفرنسية للعلوم والآداب والفنون).. خلفاً للبروفيسور (ليفي ستروس).. تقديراً له ولمجمل أعماله، وهو أمر يستحق الفرح به والتهنئة له: خالصة.. من الأعماق، فليس قليلاً أن يكون من بين الأدباء والكتاب العرب عضواً في هذه الأكاديمية العريقة التي يحمل آخر سطور شعارها.. كلمة (في سبيل الخلود)..!! وهو ما استلفت انتباه الصحفي (جورجيا مخلوف) بجريدة الحياة.. وهو يجري معه أول حديث له بعد اختياره لعضوية الأكاديمية.. عندما سأله قائلاً: (لقد اعبتروك من الخالدين، فهل الأمر عبء يصعب حمله)..؟
ليجيبه ضاحكاً: (الانتساب للأكاديمية لا يضمن الخلود، فالفكرة نبعت من سوء فهم غير خبيث.. بينما المقصود من كلمة (في سبيل الخلود) ليس خلود الأشخاص بل خلود اللغة والحضارة)..!!
وهكذا يكون الأمر..
وهكذا يكون قول حملة شرف الانتماء إلى هذه الأكاديمية.
dar.almarsaa@hotmail.com