أجزم أن العقلاء تابعوا وما زالوا يتابعون الأحداث التي حصلت قديما، وما زالت تحصل في كثير من البلدان الإسلامية والعربية حديثا، وأن متابعتهم كانت متابعة المتأمل المتفحص المحلل المعتبر المتدبر للأحداث وما تمخض عنها من عواقب وكوارث، لو كان يعلم من تسبب في حدوثها مسبقا لغير الكثير من حساباته، لقد تمخض عن تلك الأحداث نتائج مفزعة مخيفة لا تخفى على من يمتلك أدنى مقومات الإدراك والفهم، نتائج ما زالت شواهد أحداثها وحوادثها ومآسيها تترى على البنية المجتمعية، وعلى أنظمة الحياة المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وغيرها مما له صلة بالفرد والجماعة واستقرارهما.
في إيران إعتبار لمن يعتبر ويدكر، فقد تبين للعامة بعد حوالي أكثر من أربعين عاما من الثورة أن حالهم أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة، في طهران مثلا لا يسمح للسيارات بالتنقل بين أحيائها كيفما شاء قائد السيارة، فقد قيدت حركة السيارات وفق أرقامها الفردية والزوجية، فالفردية تجول في أيام معينة في أحياء معينة، والزوجية في أيام أخرى وأحياء أخرى، مرد هذا سوء البنية التحتية التي لا تقدر على استيعاب حركة كل السيارات في الطرق العامة دون هذه القيود التي أدت إلى حالة من الاحتقان والتذمر، يذكر أحد قادة المركبات العامة أن عمره الآن من عمر الثورة، لم يتلق التعليم المناسب، لا يمتلك بيتا، ولا يفكر في الزواج، لأن حالته المادية لا تسمح له بالإقدام على الزواج وتحمل تبعاته المادية التي يستحيل عليه الوفاء بها، بعض المشروعات العامة يستغرق إنجازها عشرات السنين، كثير من الشباب يمقت الثورة ويمقت القائمين عليها لأنها لم توفر لهم أبسط حقوقهم المدنية في التعليم والسكن والعيش الكريم والمشاركة الوطنية في الوظائف العامة، السنة محرومون تماما من الوظائف العامة، حتى في أبسط صورها في إدارة مدرسة أو وكالتها.
أفغانستان شاهد حي على عدم الاستقرار والتناحر والتدابر وسفك الدماء البريئة، والاحباط من ضعف البنى التحتية التي أهملت بسبب فتنة الاقتتال والحروب البينية بين أبناء الوطن الواحد، غدت أفغانستان مرتعا للإرهاب، ومسرحا للجريمة، خيم فيها الفقر والجهل والخوف وعدم الإستقرار، وفي هذه الأحوال والأجواء تفقد الحياة طعمها وقيمتها، وتنقطع سبل التنمية المادية والبشرية.
العراق مثال آخر على الفوضى والخوف والدمار، والفساد الإداري والمالي، فيه تهدر كرامة الإنسان ويسفك دمه وفق تصنيفات وعناوين طائفية بغيضة، مازالت الفتنة الطائفية تعصف بالمجتمع، بل يتجدد أوارها وانفعالاتها، فصار كل فريق يتربص بالآخر، إمتلأت النفوس كراهية وبغضاء، فانقسم المجتمع وتشتت، وتعددت الولاءات والانتماءات، فقد الوطن هويته العربية، وصار غريب الوجه واللسان بين محيطه الذي كان يتعز به باعتباره موئلا للعروبة والإسلام.
الصومال الشاهد الأبرز والأكبر على عدم الاستقرار والتناحر وسفك الدم منذ عهد رئيسه الأسبق «سياد بري» وحتى الآن، تفككت بنية المجتمع، وتعددت صور الولاء فيه والانتماء، وصار كل حزب بما لديهم فرحون، يقاتلون دونه، ويبغون ويعتدون، وتقطعت أوصال الصومال، وحتى الآن يعيش الصوماليون في فقر وخوف وتخلف وهدر لكرامة الإنسان وماله ودمه، انتشر الجوع والمرض وفقدت الحياة رونقها وبهجتها بسبب فتنة تعد أشد من القتل وأنكى منه، القتل ينتهي بزوال المقتول، لكن الفتنة يتجدد وهجها وتستعر نارها بين الحين والآخر، لا تهدأ ولا تنام إلا على مزيد من التشريد والتخويف والتجويع والقتل الذي أضحى سمة مالوفة في المجتمع الصومالي.
البلدان العربية التي انتفضت تحت عناون ما سمي بـ»الربيع العربي» مازالت تعيش في حالة من التيه والاضطراب والقلاقل والفوضى، بل بدأ اليأس والخوف يدب في النفوس خشية مما هو آت، لأن زعزعة أي بنية وهدمها بمثل الصورة التي تمت بها في هذه البلدان لا يمكن أن يتمخض عنها إلا بنية هشة، والحركة الغوغائية المنفعلة لا يمكن أن ينتج عنها إلى نواتج من جنسها، حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين عامة من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ab.moa@hotmail.com