كثير من المؤرِّخين والقرّاء يظنُّون أنّ حرب البسوس في العصر الجاهلي بين جناحيْ ربيعة بكر وتغلب كانت بسبب قتل ناقة، وكثير من أولئك أيضاً يظن أنّ حرب داحس والغبراء كانت بسبب المنافسة على جائزة سباق في مضمار الخيل بين عبس وذبيان.
القضية أكبر بكثير من هذه الأسباب الواهية التي لا يمكن أن تحدث تشابكاً بالأيدي وتلاسنا بين فردين عاقلين فما بالك بصناديد العرب وعقلائهم، والحقيقة المرّة أنّ الشحن النفسي والغليان الاجتماعي لأطراف الصراع كان على مر عقود، تراقبه العيون وهو يزيد شيئاً فشيئاً مثل كرة الثلج حتى انفجرت بعد أن ارتطمت بشيء تافه تماماً، وهذا يؤكده أنك قد تطرق صخرة صلبة ألف ضربة بفأسك ولا تنكسر وربما تصدّعت في الضربة التي تعقب الألف مباشرة على يد أخرى لم يتعبها توالي الطّرق لتسطر في سفر التاريخ الإنساني ألف ضربة وضربة بلا جهد يذكر...
بالتأكيد ما من سبب واحد لأيّ حراك انقلابي في ليل هذا العالم الغافل والذي عصف بكائناته النائمة زلزال مدمر وبركان لا يهدأ، دونما توقع وتهيئة، والكارثة الحقيقية ليست في المصيبة وقدر الله المؤلم، بل إنّ من وراء دوائر كشف البراكين ورصد الزلازل لا يسمعهم أحد في تحذيراتهم من الكارثة القادمة، وهي في طريقها بسبب افتعال الأزمات وما يصحبها من الضجيج الذي يضيع معه صوت العقلاء، وأحياناً تتحوّل أسماء أشخاص وتقارير إخبارية في التاريخ يراها الجميع وعاشوا تفاصيلها، إلى ذبذبات ومؤشرات تنذر بالتحوّلات الكارثية، ولن ينفع البشر حينها تهوين شأنها بإطلاق الأسماء المزركشة عليها كالربيع العربي وثورات الياسمين، فالبوعزيزي لم يحرق نفسه من أجل رغيف أو من أجل صفعة، لأنّ هذه أسباب غير مسوغه للانتحار احتراقاً وغير موضوعية لاختيار طريقة النهاية، ولكن كان هناك أسباب أخرى ربما كانت له أسبابه المقنعة إلى حد ما، في هذا السياق الواقعي الذي لا يختلف عما كانت عليه النفس المشحونة منذ الإنسان الجاهلي في البسوس وداحس والغبراء، مما يحتم على العقلاء أن يعالجوا كل خلل قد يكون قشّة ذات يوم تقصم ظهر المجتمع بأسره، ليس في ربيع زاهر، وإنما في صيف ضاع منه اللبن كما قالوا في المثل، وبخاصة أنّ الحمل عبارة عن مجموعة من التراكمات الصخرية القاسية، التي تجبر من يحملها على أن يبرك على الأرض في لحظات فجائية ومرة واحدة لا ينفع معها المحاولة والإنقاذ.
بكل تأكيد لم يكن زين العابدين يعلم بتلك الموظّفة في البلدية حينما صفعت البوعزيزي، ذلك المواطن المقهور الذي تم تجويعه بطريقة ممنهجة حتى أحرق نفسه احتجاجاً على النمط الصعب والنمط المخيف في إدارة شؤون بلاده، ولم يوجِّه حسني مبارك رجل الأمن أن يهشِّم وجه خالد سعيد على الرصيف، ولكن الذي تعلمه الجماهير، أنّ النظام بأكمله كان ممنهجاً على هذه الطريقة التي لا يخفى معها أنّ كلّ بلد تعاني من مشاكلها التي لم تجد عقلاء يفتحون ملفّاتها بشفافية فضاعت الامتيازات الشخصية والصلاحيات فضاعوا وضيّعوا الأمة بكاملها وبقيت المسؤوليات يحاكمون عليها بمحاكم باسم الثورة. نعم كل بلد كانت تعاني من قضيتها، ولا يمكن أن تختزل القضية في شخص الرئيس لأنها كانت حالة ذهنية لنظام كامل يحمل رهاباً اجتماعياً ضد بعضه ابتداءً من الصغير وانتهاءً بالكبير، وكان البعض والكل يتبنّى ثقافة كاملة في فرض عنصرين مهمّين على تفاصيل الحياة اليومية للناس والعنصران هما الاستبداد والفساد، مما يفرض على أي مسؤول في أي دولة كانت كبيراً أم صغيراً أن يتقمّص دوره الإنساني وأن لا يكلف الشعب أكثر من طاقاته وألاّ يحارب الجوعى في قوت يومهم، وأن لا يحول الوطن إلى ثكنة عسكرية وسجون كبيرة بحجة الشعور الأمني، ويعقد الناس بقرارات وهمية ليس الهدف منها إلاّ أن تكون سوطاً يجلد به ظهر البشر وقوانين في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، يجب على كل مسؤول خلف كرسي الولاية ألاّ يسهم في زيادة حجم كرة الثلج وألاّ يحرف المجتمع بأكمله إلى ظاهرة ضد نوعي تنتظر القشّة التي تقصم ظهره وظهور الجميع بما يحمله من عقد اجتماعية وأيديولوجية وربما مناطقية أو قبائلية.
لقد كانت مطرقة الزمان وسندان المكان في تونس يحاربان الشعب بينهما في دينه ولقمة عيشه بالقبضة الأمنية المخيفة، وكانا في مصر يحاربان الشعب في فرض مزيد من القيود الأمنية وسياسات التجويع اللوجستية، وكانا في ليبيا يحاربان الشعب في مصادرة ثرواته وصرفها على مجانين العالم وتغييب النخب عن المشاركات السياسية، وكانا في اليمن يحاربان التمدن بفرض مزيد من الثقافات القبلية المتخلفة وتهميش بعض فئات المجتمع وطوائفه وتخوينها بلا مسوغ البتة، حتى تم استهداف الإنسان اليمني في كل احتياجاته اليومية بسبب سوء في توزيع العدالة الاجتماعية وما يترتب عليها من ثروة وتنمية ومشاركة، فشعر أهل الجنوب وجزء من أهل الشمال بأنّ دورهم في مجتمعهم أداء الكومبارس لأبطال لا يحملون شرف البطولة، وأما في سوريا فكانا يحاربان الشعب في حريته وفرض حكم الطائفة وقسر الشعب على العبودية لها، وهكذا في كل واد بنو سعد كما قالت العرب.
أخشى من ربيعنا أن يغري العيون بنباتات سامة وحشائش تفيض مرارة لا تصلح للاستعمال البشري والحيواني على السواء، مما يعود بنا إلى مربع العصور الجاهلية حينما لا تأمن الكائنات على حياتها، وأخشى من ربيعنا أن ينعدم فيه وزن الأشياء وتصبح سيادة التراب مستباحة من قِبل المرتزقة والمجهولين الذين يستبيحون الأرض والعرض اللذين يضعان المواطن الحقيقي، مسؤولاً كان أم عاطلاً عن العمل، أمام استحقاقات تاريخية يجب على الجميع أن يفهمها جيداً حتى لا نخسر أمام إغراءات الربيع وزهوره ما هو أثمن من ذلك الاخضرار الذي يعده الصيف بالتصحّر والإبادة، ليهيئه برمّته لزلزال تاريخي يفقد أطرافه التوازن، وعندئذٍ تكون الحضارة والدولة والمؤسسات برمّتها قد دخلت إلى دائرة الخطر الذي يجبرنا فكرياً ووطنياً وأخلاقياً ألاّ تمر بنا هذه اللحظات الفاصلة في تاريخنا العربي ونعاملها باستخفاف وعدم اهتمام، وألا نرصد تورم الواقع القابل للانفجار بين تهويل وتهوين، وكلاهما لا يعالج قضية ولا يحل أزمة في ظل الدوران في حلقة مفرغة وتفسير الماء بعد الجهد بالماء، وحينها لا يجدي دفع المصيبة إلى أبعد نقطة مادام أنها ستقع، ولا يمكن أن تضبط المعايير الموضوعية لعلاجها ولتخفيف ارتطامها بمقاييس جيو سياسية تصعد للسماء بسرعة إلى نقطتنا الحرجة، ثم تعود للأرض بنفس السرعة ليكون الارتطام على النفس البشرية موجعاً بحالات من الرهاب الاجتماعي والاكتئاب ثلاثي الحلقات والوسواس القهري بقدر السرعة مهما كانت القشة صغيرة هذا اليوم وليست ذا بال، مما يحتم على النخب الوطنية ضرورة السير للإصلاح بخطى ثابتة حتى لا تفقد القدمان توازنهما فيسقط المشروع ونسقط جميعاً على أنقاضه، وبخاصة بعدما انفجر ما كان مسكوتاً عنه في عالمنا العربي دفعة واحدة، ولن يكون أحد ما بمأمن عن تأثير الانفجار وإن كان على درجات قد تزيد مثل كرة الثلج مع مرور الأيام والنوازل التي تراقب بكاميراتها وعدساتها الفضائية كل صغيرة وكبيرة، وتحوّل الأمور الهشة إلى قضايا تجبر الأوطان على الدخول تحت البند السابع في أروقة المجالس الموقرة لتبدأ مسيرة أخرى تماماً بكل أسف في ذلك الربيع الذي شغلوا عنه بالمحاكمات والمساءلات وتسديد المديونات التاريخية على عجل، لأنّ الثوار فتحوا أفواههم وجيوبهم لنعود إلى مربع يستغله منتفعون جدد وشعوب مهمشة من جديد... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com