نتساءل بدْءا: هل (الرشوة) (داء) يَقْعدُ عن التصدّي له كلُّ دواء، أم (عادة) تتوارثُها الأجيال بلا مَلَل، أم (وسيلة) غير سويّة لقهر إحباطات العيش السويّ؟!
وبمفهوم آخر، هل الرشوةُ امتدادٌ لسياق محنة الفقر أم إفرازٌ لترف الغِنى، أم أنها ظاهرة سلوكية تتقاسُمها أطرافٌ عِدّة بأساليبَ مختلفة ولأغراض متباينة؟!
والردُّ على هذه التساؤلات وغيرها ليسَ بالأمر البيّن أو الهيَّن، بل أجزمُ أنْ ليسَ في وسع كاتب هذه السطور بقدراته المتواضعة إشباعُ َشَغَف القارئ بمحاولةِ الردِّ عليها عبْر عُجَالة كهذه، فتلك مُهِمةُ ذوي الفهم والبصيرة في شئون النفس والمجتمع!
أعودُ من حيث بدأت فأقول إنّ هناك بعضَ القناعات حول (فتنة) الرشوة و(فنّياتِها) يمكن التأمُّل حولها على النحو التالي:
أولاً:
أن للرشوة هويةً دوليةً، لا تختصّ بها قارّة دون أخرى، ولا يَنفردُ بها شعبٌ دون آخر، والقولْ بغير ذلك مغالطةٌ صريحة لحِرَاك التاريخ والجغرافيا والاجتماع, قديمِه وحديثِه!
ثانياً:
أن الرشوةَ مظهرٌ سلوكي قديم أحسبُ أنه تزامن مع نموّ الإنسان نفسه مرتبطاً بمعاناة البحث عن العيش وسط غابة المصالح المتشابكة والتنظيمات والطقوس البيروقراطية المعقّدة بفنُونِها وأحجامِها المتباينةِ بين الشعوب.
ثالثاً:
أنّ الرشوةَ حراكٌ اجتماعي يشترك في (تشكيله) الغنيُّ والفقيرُ سواء، فهي ليست محنةَ الفقير يمارسُها تحتَ وطأة العَوز، أو يقترفُها الغنيُّ استجابةً لنَزَغ الترف، ولكن لكلّ منهما حِيلَه وسبلَه وأغراضَه منها.
رابعاً:
أن الرشوةَ تنشأُ في الغالب استجابةً لمعِّوقاتٍ سلوكية تجِّسدُ انهزاميةَ الذات العليا وتَراجُعَ الخُلُق لدى مقترفها، راشياً كان أو مرتشياً أو وسيطاً بين هذا وذاك.
أختمُ هذا الحديثَ بالتنبيه إلى ظاهرة يشْهدُها مجتمعُنا منذ سنين، تنمُّ عن خلطٍ مخيفٍ في القيم، أصورها بالموقف التالي:
تقود أحدَنا ظروفُ المرض إلى ابتغاءِ العلاج في مستشفىً ما لفترة قد تطول أو تقصر، يحْظَى خلالها برعاية وعناية المشرفين على هذا المرفق، أطباء وممرضين وإداريين، بما يمليه خلقُ المهنة وآدابُها، وحين تدرك صاحَبنا العافيةُ، ويَزفُ الرحيلُ عن المستشفى، يَعمدُ بحسن نية، تدنو من السذاجة، إلى مكافَأة أحدِ أو بعضِ مَنْ تولّى خدمته بـ (هبة) مـن نوع ما، قد تكون مبلغاً من المال، وقد تكون (عيناً) ذا قيمة ما، وهو يفعل ذلك عن عمد وإصرار، اعتقاداً منه أنّ (الموهوَب) قد بذَلَ جهداً غير عادي في خدمته يستحق من أجله المكافأة.
والُمؤرْقُ في الأمر أن عادةَ (منح الهبات) أنّى كان قدرها أو نوعها لا تقف عند حد من زمان أو مكان، بل قد تتواصل وتتكرر مع مريض آخر فثالث فرابع وهكذا، حتى تصبح في النهاية (من المسلمّات)، أو شأناً يحسب له كل حساب من قبل (الواهب) و(الموهوب) سواء !
والأنكى من ذلك كله أن يُعتمدَ هذا السلوك بمرور الزمن نوعاً من (التقنين) في التعامل مع المرضى، ليس على أساس ما يمليه شرف المهنة، وعطاؤها، ولكن بقدر ما يُتوقَّع من (سخاء) المريض نفسه أثناء وبعد فترة العلاج !
إذاً، فقد تحولت (الهدية) أو (الهبة) في مثل هذا الموقف إلى نوع من (الرشوة)، الغني ينعم (بسخائه)، والفقير يتعثر في رداء فقره، وأعتقد أننا بمثل هذا السلوك مهما توفر له من دوافع حسن النية أو الطيبة الإنسانية، نسهم إسهاماً خطيراً في نشوء (فيروس) الرشوة، في بعض مرافق الخدمات العامة، كمرفق المستشفى، إذ تبدأ (عَرَضاً) خفيفاً ثم تنالها سنة التطور، فتعظمَ حتى تصبحَ وباءً ينمو بالعدْوى، ويتغذّى بالتخاذل والغفلة ووهن النفس الإنسانية أمام بريق المال، كما أننا بسلوكنا هذا نْؤذي الفقير ومحدودَ الدخل الذي لا يملك وسيلة (إشباع) نهم هذا البعضِ الضال من العاملين.