في كل مناسبة علمية عالمــيـة، وعندما يصفق العالم لمخترع جديد، أو حينما يٌكتشف علاج فعال لمرض عضال، أو حين تٌظهر دراسة علمية محكمة نسب دقيقة لظاهرة مجتمعية مؤرقة ويحدد الباحث خارطة الطريق أمام متخذي القرار.. في هذه الأحوال وما ماثلها يتردد على مسامعنا قول القائل (المشكلة لدينا أن البحث العلمي في جامعاتنا السعودية متأخر كثيراً، ولا يجد الباحث أياً كان تخصصه الدعم الكافي سواء من القطاع الحكومي ممثلاً بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية أو وزارة التعليم العالي أو القطاع الخاص ومن باب أولى قطاع التنمية الثالث «الأهلي» أو ما يعرف في الغرب بمؤسسات المجتمع المدني..) هذه طبعاً تهمة جاهزة وجزماً سمعها جلكم مرات عديدة وعلى جميع المستويات وبكل الأساليب والمفردات، وأنا شخصياً أعتقد أن الإشكالية إشكالية معقدة لا يمكن أن تقف عند أسوار صروحنا العلمية ومعاملنا التخصصية بل تتعدها إلى دوائر أوسع ومؤسسات أكبر، ولا أبالغ إذا قلت إن المجتمع كله مسئول مسئولية مباشرة عن ضعف بنية البحث العلمي لدينا وإن كانت المؤسسات العلمية والبحثية هي المتهم الأول بلا منازع.
خذ مثالاً بسيطاً يبرهن على المسئولية المجتمعية عن هذا الضعف.. كيف يتعامل أفراد المجتمع مع الاستبانة التخصصية «إحدى أدوات البحوث الميدانية» التي يعكف الباحث على إعدادها أشهر عدة بعد أن يلم إلماماً جيداً بالجانب النظري لدراسته، وتٌحكم الفقرات التي تواصل إليها تحكيماً علمياً متقناً على يد أساتذة مبرزين.
إن غالبيتنا وللأسف الشديد لا يكترث في ملء وتعبئة ما يرده من الباحثين والدارسين المتخصصين، والنتيجة العلمية المتوخاة من مثل هذه الدراسات تضيع بين تعالي العارفين وعجز الآخرين، فالعارف بأهمية مثل هذه الاستبانات العلمية قد يكون مشغولاً بشكل كبير ولذا فهو يٌسند تعبئتها لمدير مكتبه أو يتناساها أو أنه إن اجتهد في الإجابة عليها حياءً ومجاملة منه للباحث فهي لا تأخذ من حيز تفكيره شيء ويمر عليها مرور الكرام، وقد لا يكملها وإن طلب الباحث في نهايتها وجهة النظر الشخصية أو كتابة بعض التوصيات فلن يفي معه إلا القليل.
إننا بحاجة لنشر ثقافة تعبئة الاستبانات سواء في أبحاثنا العلمية الاجتماعية والثقافية الميدانية أو حين قياس الرأي العام وتحديد الاتجاهات الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية التنموية والتخطيط المدروس للمستقبل المنظور برؤية علمية واقعية مبنية على أرقام دقيقة وتحليلات صحيحة أو غير ذلك.
إننا نتحدث كثيراً عن قضايانا المصيرية ونتطارح ونتدارس مشاكلنا وتحدياتنا الحياتية بأسلوب ندعي فيه العلمية وهو أقرب إلى الرؤى الشخصية المبنية على الحدس والتخمين والمقارعة الفكرية المتخندقة بالأطر سابقة الصنع وللأسف الشديد.
إن الكثير من المثقفين والكتاب ممن يكتبون حول ما يدور من مشاكل مجتمعية ويجيبون على الأسئلة المطروحة في منتدياتنا واجتماعاتنا ووسائل إعلامنا هم -علموا ذلك أو لم يعلموا- قد يؤثرون سلباً على صاحب القرار بكتابتهم الشمولية المدعية أنهم وكلاء عن العامة ويتحدثون باسم الجميع، وأكثر منهم خطورة من يذكر نسباً وأرقاماً مختلقة أو أن النتائج محل الحديث تكون مبنية على دراسات واستبانات لا تتوافق مع المنهجية العلمية المعروفة، وقد يتدخل الباحث بطرق غير علمية من أجل أن يتم تطبيق الجانب الميداني حتى ولو على حساب جودة وإتقان العمل.
عموماً أوكد هنا على أهمية نشر ثقافة دعم ومساندة البحث العلمي من أجل أن يكون كلامنا وكتاباتنا وأحاديثنا إلى العقل أقرب وعن الارتجالية والتخمين والحدس والعاطفة الممزوجة بالتأطير أبعد والمسئولية تقع على محاضننا التربوية ووسائل إعلامنا المختلفة وكل منا يمكن أن يكون فعالاً من أجل بحث علمي أفضل.. وإلى لقاء والسلام.