الشفافية من المصطلحات الحديثة نسبياً، وقد ذاع صيتها، وأُشتهر استخدامها، على مستوى الأفراد والمؤسسات المحلية والعالمية، وأدمن على التعاطي معها الكثير من النُّخب والشرائح المجتمعية، من مختلف التَّوجهات الفكرية والمذهبية.
بلْه أضحت شعاراً للبرامج الانتخابية والإنمائية لبعضٍ من هذه النُّخب، ولا سيما فيما يتعلق بأعمال الحكومة وقراراتها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية. كما تشكَّلت باسمها منابر ومنظمات عالمية، مثل: منبر الشفافية (Platform for Transparency) لتعزيز الشفافية السياسية، ومنظمة الشفافية الدولية (Transparency International). والشفافية مشتقة من المادة الشفَّافة، وهي فيزيائياً المادة الزجاجية التي يمكن بواسطتها رؤية الطرف الآخر. ومن ثمَّ جرى تعريفها بأنَها تلك البيئة التي تتوافر لديها أهداف وسياسات وبرامج ورؤية ورسالة ونظم محاسبية وإدارية ومالية واتصالية تتسم بدرجة عالية من الوضوح والمصداقية، بما يسمح للرأي العام بالاطلاع على أبرز معطياتها وأنشطتها، وحتى مناقشتها وتقويمها. هذه العناية بمصطلح الشفافية وهو لا يعدو أن يكون مرادفاً لِقيم الصدق والمصداقية والحقيقة والوضوح، يدخل في تقديري إلى ما يمكن تسميته بلعبة المصطلحات التي تُمارس بين الفينة والأخرى، فيبدو أنَّ الفكر الإنساني قد يرى أهمية إعادة إنتاج قيمة مادية أو معنوية معينة في إطار صيغة جديدة في محاولة منه لتعزيز مضامينها، وتطبيق متطلباتها، ومن ثمَّ تحسين مسارات الحراك الإنساني القِيمي بمجالاته المتعددة، ومنها مجالات السياسة، والأخلاق، والأعمال، والإدارة، والقانون، والاقتصاد والاجتماع... على أية حال، وكما يقال في الإعادة إفادة، فإن من شأن ذلك الإسهام في إعادة الزَّخم إلى بعض القِيم الإنسانية التي قد تكون تآكلت بفعل إرهاصات الحراك الإنساني بتجاوزاته المتراكمة خلال الزمن.
في المشهد السعودي يتسع نطاق تداول هذا المصطلح بين النُّخب الفكرية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية، وتتسع كذلك حول مضمونه الآراء والكتابات، والندوات والمؤتمرات والملتقيات. ويتماهى ذلك مع جهود ومبادرات فعلية لتوطين مبادئ الشفافية بما تتضمنه من وضوح ومصداقية ورقابة ومكاشفة على صعيد الكثير من القضايا المجتمعية، خاصَّة في مجالات الإدارة الحكومية والتخطيط والتوظيف والموارد البشرية والإنفاق العام وأولوياته، إضافة إلى قضايا التعليم والإسكان والغلاء. هذا الحراك، وزيادة زخمه، على المدى المنظور، سوف يقود حتماً إلى تحقيق مؤشرات إيجابية بما يخص ترشيد استخدام الموارد المتاحة، ورفع معايير الجودة في القرارات والتصرفات والسلوكيات الإدارية والمهنية، وبما يصب في المحصلة النهائية لصالح دعم منظومة العدالة الاجتماعية. ولعلَّ من أبرز الخطوات المتخذة في إطار دعم الشفافية وتطبيقاتها في المملكة إنشاء «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد« بأمرٍ ملكي من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله -. ويأمل الجميع أن تمارس هذه الهيئة الوطنية أدوارها بفعالية عالية في مراقبة أداء المؤسسات الحكومية، وبناء الشفافية في أنظمتها الإدارية والمالية والتنظيمية، ومعالجة مشكلات البيروقراطية والفساد، إن وجدت، بما في ذلك سوء استخدام السلطة والصلاحيات، وتعقيد إجراءات العمل، وبما يحفظ للوطن موارده وإنجازاته المتراكمة خلال الزمن، ويحفظ للمواطن حقوقه في التمتع بمنظومة حقوقية وخدمية عالية الجودة، ويسدُّ نسبياً منافذ الفساد الإداري والمالي. ويأمل الجميع كذلك أن تتسم أعمال وبرامج الهيئة بشفافية عالية تسمح للرأي العام بالاطلاع على أبرز مناشطها في مجال مكافحة الفساد والفاسدين، وأدوات المساءلة والمحاسبة المستخدمة.
كلمة أخيرة: من المهم جداً ونحن نسعى إلى بناء وتوطين الشفافية فكراً ومنهجاً وسلوكاً ألا نغفل عن العناية بعنصر «الانتماء والمواطنة« وتنمية قِيمه في النفوس والقلوب، والتركيز على البعد الأخلاقي لمكافحة الفساد ونشر مبادئ الصدق والشفافية.
من مأثور الحِكم: المصلحة الشخصية هي دائماً الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ.