أثناء تواجدي في مدينة العالم «دبي» تأملت المكان من حولي.. فوجدت شابة يابانية تحمل بين أصابعها هاتف «آي فون»، وبجانبي طفل يمرح بجهاز لطيف يدعى «آي توتش» بعد ساعات قليلة توجهت نحو إحدى المكاتب فوجدت أحد الموظفين يطلق عنان أصابعه على لوحة مفاتيح جهاز جذاب وأنيق يقال إن اسمه «ماك بوك».. غادرت المكان نحو أقرب مقهى وأرى بيد إحدى الجالسات جهاز رشيق وسحري اسمه «آي باد» وكل تلك الأجهزة تنتمي لشركة واحدة تدعى آبل.
حين توفي ستيف جوبز مؤسس شركة «آبل» أصاب العالم ما يشبه الصدمة، وفاته المفاجئة آلمت الكثيرين -وأنا لا أقصد عائلته وأصدقائه ومن تربط به علاقة أي كان نوعها- بل اعترى العالم كله من أقصاه إلى أقصاه حزنا عميقا على رحيل هذا العبقري الفذّ.. فغطت خبر وفاته صحف من العالم العربي والآسيوي والأوروبي والأمريكي وتناقلته وكالات الأنباء العالمية باحثا عن تفاصيل تشبع فضول العالم، وأصبح الحزن عليه علامة عالمية ولدت في الخامس من أكتوبر 2011م.
هذا الرجل العظيم الذي ينحدر من أصول سورية وتحديداًمن مدينة حمص بدأت ملامح نبوغه تظهر من وقت مبكر، ولعه بالإلكترونيات، وشغفه بقراءة أجزائها الصغيرة أنذر بولادة عملاق في عالم التكنولوجيا، عبقريته لم تظهر بالحقل الأكاديمي، فعلى الرغم من أنه أحد أشهر رجال القرن وأهم من أضافوا للبشرية وقدموا لها وأحد أغنى رجال العالم إلا أنه لم يكن يحمل الدكتوراه ولا حتى البكالوريوس.. فهو الذي ترك الجامعة حين لم يحقق نتائج مقبولة وقرر أن يؤسس شركته الخاصة، وفعلا أطلقها حين كان في الواحد والعشرين من عمره.. يقول ستيف جوبز في خطابه في حفل تخرج طلاب جامعة ستنافورد -وهو بالمناسبة خطاب جميل وملهم أنصح الجميع بمشاهدته- إنه كان محظوظاً حين اكتشف شغفه مبكرا مسّتحثاً الطلاب على إيجاد الجمال والشعلة المختبئة في داخلهم، ثم يقول لو كان هذا هو آخر يوم في حياتك هل ستقوم بما ستقوم به الآن أم لا؟ لأنه أمام الموت تظهر رغباتنا وأمنياتنا الصافية الحقيقة وتبهت كل رغبة ثانوية.
حين سمعت خطابه شعرت بالألم على كثير من الذي يعملون ويكبرون ويشيخون في مجالات لا يحبونها ولا تمثل لهم مصدر سعادة وإلهام وشغف، بل مجرد وسيلة للرزق وكسب قوت اليوم، وتجد أن آمالهم الأصلية، والأشياء التي يستمتعون بها حقاً وتصنع في داخلهم السرور والبهجة مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
أعتقد أن شغف ستيف بعمله وإيمانه بأحلامه وعنصر المخاطرة في شخصيته هي أهم العوامل التي صنعت مجد شركته التي غزت العالم باتجاهاته الأربعة، وأصبحت شخصيته الخلاّقة مصدر إلهام لدى الكثيرين.
فمن السهل أن تجد من يصنع التأثير والإلهام في بيته أو عمله أو وطنه ولكن أن تجد شخصا ً غير شكل العالم من حوله وحزن على رحيله كل من لمس إبداعاته واستشعر فائدتها على حياته فتلك هي العظمة، فحين توفي جوبز شعر كثير من حاملي منتجات أبل بالألم وكأنه توفي بين أيديهم.
جوبز أصبح جزءاً من يوميات ملايين البشر الذي تذكرهم به التفاحة المقضومة في كل حين.. فهو من سهّل تواصلهم مع بعضهم عبر العالم، وقدم لهم المعرفة بكبسات بسيطة على ألواح أجهزة أبل، كما نظم التزاماتهم وحفظ أسرارهم، وأخرجهم من عزلتهم حين أصبح مقتنو تلك الأجهزة على بعد ضغطة زر عن الأصدقاء والمعرفة والعالم، كما أنه بإمكانك أن تجلس لوحدك في المقهى برفقة «آي فونك» أو «آي بادك» فتشعر بأنك تجلس مع مجموعة مسلية من الأصدقاء، أفكار جوبز أضحت تعيش معنا في المنزل والمكتب والسيارة والجامعة وأكثر من ذلك.
أجمل ما في الأمر وأكثر ما يثلج الصدر أن ستيف جوبز ومنى سمبسون أبناء المهاجر السوري عبد الفتاح جندلي بذكائهم الفطري والبيئة المحفزة حولهم أصبحوا أعلاماً في أوطانهم، فجوبز صار أحد أهم أقطاب التكنولوجيا في العالم، ومنى أحد أشهر الروائيات في الولايات المتحدة، ولم يصبحوا رقماً منسياً في قائمة الدولة للموهبين الذي يكرّموا بدرع تقديري يخفف تأنيب ضمائر المسئولين تجاه هؤلاء العباقرة وبحفل غابوا عنه لانشغالهم بمراقبة إبداعات العالم الأول واستنساخها.
نبض الضمير:
«الحياة قصيرة فلا تضيعها بعيش حياة شخص آخر»..
( ستيف جوبز )