بعد توقيع الاتفاقية مع الهيئة العامة للسياحة والآثار، انطلقت أعمال البعثة العلمية السعودية - الفرنسية المشتركة في 21 سبتمبر 2011م لتبدأ أعمال المسح الأثري لمواقع أثرية سبق أن اكتشفت، ولاكتشاف المزيد من المواقع الجديدة، مع إجراء دراسات في مجالات مختلفة ذات علاقة بالآثار، بالإضافة إلى دراسة أنظمة الري القديمة والإسلامية في مواضع عديدة في المحافظة.
يتكون الفريق الفرنسي من خمسة عشر باحثاً ذوي تخصصات في مجالات علمية آثارية متنوعة، فمنهم من هو مختص بالآثار، ومنهم من هو مختص بدراسات الفخار، والدراسات البيئية، والجيومورفيلوجية، والنقوش، والاستكشاف الجيوفيزيائي.
أما الفريق السعودي المشارك فيضم الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن سعود الغزي أستاذ الآثار والتاريخ القديم في جامعة الملك سعود والمتخصص في دراسات الآثار القديمة وتاريخ الاستيطان، والأستاذ الدكتور سالم بن أحمد طيران أستاذ الكتابات والنقوش القديمة في جامعة الملك سعود؛ والأستاذ عبد العزيز الحماد أخصائي التنقيب الأثري، والمساح جزاء الحربي خبير المسح الأثري من الهيئة العامة للسياحة والآثار، قطاع الآثار والمتاحف.
وتُعَدُّ هذه البعثة الأولى من نوعها في وسط المملكة العربية السعودية من حيث التكوين، وعدد المتخصصين، ودرجاتهم العلمية، وريادتهم في الأبحاث الآثارية على مختلف أنواعها. أما السبق الزمني فقد سُبقت بأعمال عديدة لعل من أقدمها بعثة فيلبي-ركمانز-ليبنز التي نفذت عام 1951م رحلة استطلاعية إلى نجران، بدأتها من مدينة جدة، وفي عودتها مرت بمواقع أثرية عديدة ربما أن من أهمها قرية الفاو في محافظة وادي الدواسر وجبل مأسل في محافظة الدوادمي. وسبق أن قدم هاري سنت جون فيلبي عدداً من الدراسات الميدانية عن أنظمة الري في الأفلاج، وآثار قرية الفاو، ونشر دي جوري مقالة عن المقابر الركامية في موقع عين الضلع، بعده نشر هولدش مقالاً عن ذات الموضوع، ثم جاءت مناقشة للموضوع نفسه نشرها ديفد هوجارث رئيس المكتب السياسي البريطاني في مصر في أوائل القرن الماضي، كما نشر حمد الجاسر قصة حفره لأحد تلك المقابر عام 1360هـ. وقام في سبعينات القرن الماضي الباحث الأمريكي البرت جام بعمل في قرية الفاو ركزه على دراسة النقوش والرسوم الصخرية القديمة نتج عنها نشره دراسات في ذات الخصوص.
ومع ذلك يبقى مشروع هذه البعثة المشتركة هو الأكبر إذ إنه حسب الاتفاقية الموقعة من الطرفين - السعودي - والفرنسي سوف يستمر لمدة خمس سنوات، وربما لأكثر من ذلك، مما سيتيح الوقت الكافي للكشف عن الكثير من المواقع التي لا تزال ترقد تحت الرمال والأتربة المتراكمة عليها، والعمل على حفر أجزاء كبيرة منها لتفصح عن تاريخها. وقد وقع اختيار الفريق على موقع من أهم المواقع في شبه الجزيرة العربية هو موقع «الخضرمة» (يعرف محلياً باسم البنّة) الذي يحتل مساحة من التاريخ القديم والتاريخ الإسلامي لوسط المملكة العربية السعودية تمتد من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى ربما القرن السابع الهجري. فعلى سبيل المثال عُرف عن الموقع أنه كان مقراً لأمة جديس، ولأمة كندة، ولأمة حنيفة فيما قبل الإسلام على التوالي، واستمر مستقراً لبني حنيفة حتى القرن الرابع الهجري عندما أصبح مقراً لدولة الأخيضريين التي عاشت قرابة القرنين قبل أن تنتهي على يد القرامطة في معركة حاسمة حدثت في الخرج بالقرب من المستوطنة ذاتها.
هذا التراكم الزمني الاستيطاني الطويل الذي يتوفر في الموقع والذي لا نعرف منه إلا القليل، سوف يفصح العمل الأثري التنقيبي فيه، إن استمر لوقت كاف، عن مواد أثرية سوف تساعد في إعادة كتابة وبناء تاريخ وسط المملكة العربية السعودية من جديد، كما سوف يجعلنا نُعيد النظر في صراعات القبائل العربية وحروبها فيما قبيل الإسلام، فضلاً عن أنه سوف يقدم مادة آثارية وتسلسلاً طبقياً ربما يلعب دوراً كبيراً في تأكيد ما يعرف عن استيطان الموقع أو يصححه أو ينفيه أو ينفي جزءا منه.
وفي النهاية، ونيابة عن أعضاء البعثة السعودية - الفرنسية المشتركة، نتقدم بالشكر الجزيل لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، وسعادة الأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم الغبان نائبه للآثار والمتاحف على هذا الإنجاز الدولي باستقطاب خبراء عالميين للعمل جنباً إلى جنب مع الخبراء السعوديين مما سيحقق نشر العمق التاريخي للمملكة العربية السعودية، ويوفر فرصة تقديمه في المحافل الأكاديمية الدولية هذا من جانب؛ ومن الجانب الآخر سيتيح فرصة المحافظة على آثارها وتراثها: توثيقاً، وتصوراً، ورسماً، ودراسة، وعرضاً في المتاحف السعودية والعالمية.