الرياض - خاص بـ «الجزيرة»
حذر فضيلة الشيخ الدكتور مزهر بن محمد القرني القاضي بمحكمة الاستئناف بالرياض المسلمين من مغبة ومخاطر التلاعب بالمواريث والحرص على تنفيذ الوصية، وتقسيم المواريث وفقاً لما شرعه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وبينه رسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، مستعرضاً فضيلته بعضاً من أسباب خلاف الورثة بعد موت الوارث.
جاء ذلك في حديث شامل لـ»الجزيرة» للدكتور مزهر القرني عن المواريث وأنصبتها وكيف تعامل الإسلام مع تركة المسلم المتوفى، وكيفية توزيعها، وكيف كانت الحال في الجاهلية.
وقال فضيلته: إن من الأسباب التي تدعو إلى المشاحة والخصومات بين الورثة ما يلي: أولاً: تفضيل بعض الورثة في العطية، كما روى النعمان بن بشير قال: تصدق عليّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاء أبي إلى رسول الله ليشهده على صدقته فقال: أكل ولدك أعطيت مثله، قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وفي لفظ «فأردده» وفي لفظ آخر «فأرجعه» وفي لفظ: «لا تشهدني على جور». فالأمر بالرد يقتضي الوجوب لأنه جور، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برده، وامتنع من الإشهاد عليه، والجور حرام، قال ابن تيمية رحمه الله: وقد روي أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، فلما مات ولد له حمل، فأمر أبوبكر وعمر أن يعطى الحمل نصيبه من الميراث، فلهذا ينبغي أن يفعل بهذا كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» وقال: «لا تشهدني على جور»، لمن أراد تخصيص بعض أولاده بالعطية.
ومضى فضيلته يقول: وثانياً: الإضرار بالورثة، كأن يوصي لأحدهم، وهذا من علامات سوء الخاتمة، لما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار» قال: وقرأ عليّ أبوهريرة من ههنا «من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله» إلى قوله: «ذلك الفوز العظيم»، ثالثاً: التحايل ببيع بعض التركة على زوجة بحجة عدم الإنجاب، أو لكونها صغيرة سن تزوجها الوارث على كبر فيكافيها بذلك.
وواصل الدكتور مزهر القرني قائلاً: ورابع هذه الأسباب: حرمان بعض الزوجات، إما لمرضه أو عجزه، أو ترضية للورثة، فهذا يعامل بنقيض قصده لما رواه الإمام أحمد عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - اختر منهن أربعاً، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذف في نفسك ولعلك أن لا تمكث إلا قليلاً، وأيم الله لتراجعن نساءك، ولترجعن في مالك، أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال، خامساً: استعانة الوارث بأحد الورثة أو بعضهم لتنمية تجارته وتسيير حركته، وتهميش البقية، حتى إذا وافته المنية ثار الورثة ضد هذا الوارث انتقاما منه وتهمة له جراء ما يعرف عن هذه التركة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وكان فضيلة الدكتور مزهر القرني قد استهل حديثه عن المواريث بقوله: إن الله سبحانه وتعالى أخبر عن الإنسان بأنه يحب المال حباً كثيراً فاحشاً بقوله: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، قال القرطبي: أي كبيراً حلاله وحرامه، والجم الكثير. وعندما تزيد محبة الشيء عن معيارها الحقيقي فقد يخرج الإنسان عن المألوف في تصرفاته في الحصول على هذا المال، ويفقد أريحيته ويتيه في دروب المطالبة بحقه في التركة أحياناً، لأن نفوس بعض الآدميين جبلت على المشاحة، وعدم المسامحة، فلا يبقى مكرمة مع محتاج، ولا قريب أو بعيد، فلا يبادرون في فعل الخيرات وإكرام اليتيم بل يمنعون الأيتام حقوقهم التي فرضها الله لهم في التركات، كما كان يفعل أهل الجاهلية قبل الإسلام، لأنهم يأكلون أموال الأيتام والنساء.
ويستولون على أموال الضعفاء والقصار بحجة أن هؤلاء لا يحمون الديار، ولا يقاتلون الأعداء، ولا يحوزون المغانم، ولا يعطون الميراث إلا من قاتل، فيعطون الأكبر فالأكبر.
ولما جاء الإسلام شرعت المواريث، وبينت الأنصباء وتولى الله سبحانه وتعالى قسمة التركات، ولم يترك لنبي مرسل، ولا لملك مقرب، ولا لعالم من العلماء مهما بلغت منزلته أن يتولى قسمتها، بل بينها سبحانه وتعالى فقال: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، كما بين نصيب الأبوين في نفس الآية بقوله:{وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ}، أما إرث أحد الزوجين من الآخر فقد بينه الله تعالى بقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} إلى أن قال - سبحانه -: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم}.
ثم بين - سبحانه وتعالى - التوارث بين الإخوة والأخوات فقال: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ}، ثم ختمها - سبحانه - بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، وفي إرث الإخوة الأشقاء أو لأب يقول - تعالى -: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
وقد امتدت جاهلية القرون الغابرة إلى القرون المتأخرة حيث يتعمدون إلى مضارة بعض الورثة ويؤخرون قسمة التركة ويخاصمون ويفتحون الملفات والقضايا أمام المحاكم والقضاة ويشغلونهم بأمور حكم الله فيها بقرآن يتلى فتأخرت الحقوق عن أصحابها بسبب المشاحة والمماطلة حتى يضجر المضطر ويتنازل الضعيف وتستحي النساء عن مواصلة الدعوى، ويتركون ما فرض الله لهم من حق، وقد يكون فيهم اليتيم والأرملة والشيخ الهرم الذين لا يقدرون على الكسب، ولا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون إلى حقوقهم سبيلا.
فتقطعت أواصر القرابة والرحم التي قوى الإسلام وشائجها بين الوارث والموروث بهذه المواريث كما قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ}، وقال صلى الله عليه وسلم: (الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر).
فمن أخر فرض من الفروض المقدرة في كتاب الله عن صاحبه فقد تعدى حدوده التي قال عنها بعد ذكر المواريث: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، وخالف حكمه بتعطيل الحقوق عن أصحابها،وحرمان النساء والضعفة والمساكين من مواريثهم، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}.
واستشهد د. القرني بقول الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: أي لا ينبغي ولا يليق من اتصف بالإيمان إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله والهرب من سخط الله ورسوله وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما. فلا يليق بمؤمن ومؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً من الأمور وحتَّما به وألزما به «أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» أي الخيار هل يفعلونه أم لا؟، بل يعلم المؤمن والمؤمنة أن الرسول أولى به من نفسه فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله.