الانتماء هو بطاقة هوية للإنسان.. تبقى ملازمة له.. لا تفارقه في حياته.. وبعد مماته.. والولاء هو محكٌ لمعدن الإنسان وجوهره.. الانتماء فطرة.. والولاء سلوك وقناعة.. وحينما يتناغم الانتماء مع الولاء في النفس البشرية.. تتجلى المشاعر الصادقة من حبٍ.. وإيثار.. وحنين للأرض.. والأهل.
الأستاذ حمد القاضي كتب في صحيفة الجزيرة يوم الأحد بتاريخ 4-11-1432 رداً بعنوان (مهلاً أيها الكاتب فقد أخطأت في حق نجد وأهلها) وذلك على مقالة سابقة للكاتب الدكتور عبدالعزيز السماري نُشرت في صحيفة الجزيرة بداية شهر رمضان.. كان قد طرح فيها رؤيته الخاصة حول خطر الكثافة السكانية في المدن والقرى.. وارتأى الكاتب بأن الهجرة السكانية من المدن الصحراوية وخص (الرياض.. والقصيم وسدير.. والخرج.. والحوطة.. والحريق.. والوشم.. وحائل) إلى المدن الساحلية سيحد من الكثافة السكانية مرجعاً الكاتب ذلك إلى ندرة المياه في المناطق الصحراوية.. سبب لا غبار عليه.. ولكنه غير مقنع. صحيح أن نسبة الماء على سطح الكرة الأرضية تمثل ثلثي مساحة الأرض.. لكن هل كل من يعيش على أديم اليابس سينتقل للعيش بمحاذاة السواحل؟ عجبي.. ثم عجبي!! الحلول كثيرة ومتعددة.. ولا تحتاج إلى شرحٍ وتبيان.. فأنا وأنت.. وكل من يقطن أرض نجد الحبيبة يشرب ماءً محلى يصلنا من أعماق البحار.. ولا أعذب من ماء البحر المحلى.. وأما عن الأسباب الأخرى والتي أوردها كاتب المقال ونُقِلت بنصها الصريح في رد الأستاذ حمد القاضي.. فقد كانت علامة استغراب ودهشة لكل من قرأ.. وما هكذا تورد الإبل أيها الكاتب الطبيب!! لقد استعرت مبضعك الجراحي عوضاً عن قلمك.. فكان التشخيص قاسياً مؤلماً.. وخطأً جاء من ابن نجد لأهل نجد. يا سيدي الفاضل: هلا تساءلت يوماً عن سر هوى نجد ليس فقط لأهلها ومن يسكنها.. بل حتى أولئك الذين مروا بها.. أو سمعوا عنها؟ لعلي في هذه العجالة أُذكرك.... من نجد انطلقت دعوة التجديد لعقيدة التوحيد على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله... ويكفيني أن أستشهد ببيتين من الشعر قيلت في صاحب الدعوة:
سلامي على نجدٍ ومن حلّ في نجدِ
وإن كان تسليمي على البعد لا يُجدي
محمد الهادي لسنةِ أحمدِ
فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهتدي
علاقة من الود والمحبة ربطت نجد بأهلها وسكانها.. لأن صحراءها وجبالها وهضابها السمر.. ورمالها ورياضها وسهولها كانت ملهمة لهم فاستهوتهم... ولأن الصحراء كانت بيت العربي قبل قيام الحواضر.. فقد بقيت أسيرة هوى أهل نجد إلى يومنا هذا.. عندما يخالجهم الحنين لها.. يلجأون إليها كلما سنحت الفرص هرباً من ضجيج المدن.. خاصة في مواسم الأمطار والربيع.. حيث عبق الخزامى والعرار.. الذي غدا سمة من سمات ثرى نجد.
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
نجد أرض السحر والجمال.. أرض المدر والحضارة.. والأنس والفرح.. وعلاقات الود والحميمية التي تربط أهلها بعضهم ببعض.. فينجذب رجالها إلى التسامر والتنادم.. تستهويهم في بعض جلسات التسامر.. أداء الرقصات الشعبية المتميزة والمتوارثة عن الآباء والأجداد.. كرقصة العرضة النجدية.. والسامري يعبرون فيها عن ما يعتلج في نفوسهم.. من فخر واعتزاز.. وحب وحنين. أما نساء أهل نجد فقد قيل: ليس في الدنيا أحسن من ألوانهن.. ولا أرحب من صدورهن.. هن من خيرة النساء.. وأرقهن مع أزواجهن.. يتواصلن مع بعضهن البعض في السراء والضراء.. في الفرح والترح.. لهن إسهامات واهتمامات في محيط مجتمعهن.. فقد ظهرت أسماء نسائية كثيرة من نجد أولت اهتماماً في وقف الكتب.. فأسهم ذلك التوجه.. في شيوع الكتاب.. وتوفيره لشريحة من المجتمع هم طلبة العلم.. مما يؤكد حرصهن على رعاية الحركة التعليمية.. ويمكن العودة إلى بحث بعنوان (إسهام المرأة في وقف الكتب في منطقة نجد) أعدته الدكتورة (دلال بنت مخلد الحربي) أستاذة التاريخ في كلية التربية.. أيضاً هناك كتاب بعنوان (نساء شهيرات من نجد) للدكتورة ذاتها.. وقد نشرته دارة الملك عبدالعزيز بمناسبة المئوية ويحتوي على تراجم لاثنتين وخمسين امرأة من اللواتي ولدن وعشن في نجد في فترات سابقة.. وكان لهن تأثير في المجتمع في الفترة ما بين القرن الثاني عشر الهجري إلى أن توفي الملك عبدالعزيز -رحمه الله- عام 1373 هجرية ويمكن العودة إلى هذا الكتاب والاطلاع عليه. وإذا كانت لي وقفات مع رجال ونساء نجد فلابد لي من وقفة مع الأطفال والشباب.. فؤنسهم وضحكهم وسعادتهم.. هو في ممارسة تلك الألعاب البسيطة الجميلة مثل (الكعابة، المصاقيل، الرماية أم التسع) وغيرها من ألعاب طفولة أبناء نجد.. فسبحان الله.. أين هو (الانغلاق) الذي تحدث عنه كاتب المقال؟.. وإذا كنت قد أسهبت عن المدر في نجد.. فلابد لي أن أعرج على مضارب الوبر.. حيث أطناب الخيام بين الآكام ومراتع العشب والكلأ.. وعزف الربابة وأهازيج الرعاة.. ورغاء الإبل وثغاء الأغنام.. وترانيم الهجيني يرددها ابن بادية نجد إما وهو متكئ على ظهره.. واضعاً يده خلف رأسه.. أو على ناقته.. أو وهو يرعى غنمه في مواطن العشب والكلأ.. يسري عن نفسه.. أو يؤنس من معه. وإذا كانت نجد تتيه فخراً بأهلها وأبنائها وبناتها.. وإذا كانت حروف نحد أهزوجة نطرب ونحن نرددها.. فإن نجد فتنت الشعراء وأطربت الأداء وأسرت المؤرخين والرحالة الغرباء. فكم من شاعر نسج من حروف نجد قصائد شعر هتانة عذبة.. فهذا الأيبوردي يقول:
وأنشق من ربى نجدٍ نسيما
يغازل في أباطحه الأقاحي
ولشدة تعلق أهل نجد بأرضهم نجد كثير من شعرائهم يكررون لفظة نجد مراراً في البيت الواحد، وكأنها شهد على ألسنتهم، ولا أبلغ من كلمات هذا الشاعر حيث يقول:
سقى الله نجداً والسلام على نجد
وياحبذا نجداً على النأي والبعد
نظرتُ إلى نجدٍ وبغدادُ دونَها
لعلي أرى نجداً وهيهاتُ من نجدِ
وليس أدل على ذلك إلا الشاعر (الصمة الشقيري) يودع ثرى نجد وساكني نجد من الأحبة فيقول:
قِفا ودعا نجدا ومن حلّ بالحمى
وقل لنجدٍ عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أحسن المصطاف والمتربعا
لقد تعلق الشعراء بهذه البقعة لطيب هوائها وسمو أهلها وشهامة رجالها وخيرة نسائها. ولن أهضم حق من كتب في نجد نثراً فهذا عبدالرحمن عزام في كتاب (مهد العرب) يقول: (نجد الفيحاء الخضراء، موطن المدر والوبر، ومسرح الجياد العربية الأصيلة، ومنبت العرار والخزامى ومرتع الشعراء، نجد التي أثارت الفتون ونشًأتْ ليلى والمجنون، نجد أجا وسلمى، وسهل القصيم، نجد سدير والخرج والأفلاج، نجد الكرم والمروءة).. أما الرحالة الإنجليزية آن بلنت فقد كانت عاشقة لأرض نجد تقول في كتابها (رحلة إلى بلاد نجد وتحت عنوان نسيم نجد) هناك شيء ما في هواء نجد كفيل بأن يبهج الإنسان، ومن المستحيل أن تشعر حقاً بأنك مغموم أو قلق مع شمس ساطعة وهواء نقي. ختاما أقول انتماؤنا لنجد فخر واعتزاز، وأما الذين يُفترض أن يتعلقوا بنجد وثرى نجد فقد أغمضوا أعينهم.