هل نحن على قناعة تامة بسلامة وصحة كثير من سلوكياتنا وممارساتنا لبعض عناصر حياتنا اليومية؟ سيكون الجواب غالباً واحد من ثلاثة، إما نعم أو نوعاً ما أو لا أدري، وهنا من الممكن صياغة السؤال كالتالي: هل كنت تدرك أنك على قناعة أو ضدها بتلك الممارسات؟ الاحتمال الأكبر أن الجواب سيكون: لم أفكر قطعاً بالصحة والقناعة من عدمها، إذن هي ممارسات متوارثة تلقائياً من الأجداد وتم تغيير وتطوير بعضها إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فالمتغيرات والتبديلات فيما نقلناه أو نقل إلينا من عادات وتقاليد القرون الماضية طرأ عليه تعديلات إما اجتهادية تنشد الأفضل أو لمسايرة العصر المعاش، أو لسوء فهم لمضامين عادات وتقاليد أجيال سبقت، ويحصل أن من أحسنوا النوايا وأرادوا الحفاظ على الموروث وتطويره وتحسينه قد أساؤوا له دون إدراك لذلك بسبب عدم فهمهم الكامل لمقاصد ومعاني تلك التقاليد التي سادت في زمن كان أهله يعرفون جيداً لماذا كانت وشاعت بينهم تلك المراسم وفصول الحياة اليومية والموسمية والمناسبات السعيدة وضدها، ورغم أن أهل ذاك الزمان يقيدون تراثهم بالقصيد والرسوم والروايات حتى لا تنمحي وتدرس إلاَّ أن الغريب أن أجيالاً لحقت لم تفهم القصيد والرسم ذاته فكيف بها أن تدرك ما وراءه من كنوز التراث وعجائب السير وطرائف المواقف والوقائع للأجداد الأوائل؟! عذر بعضهم أن اللغة كائن يتطور ويتجدد مع الزمن ولكل حقب جملها ومفرداتها ومعانيها، مما يفقد الأجيال المتتابعة مهارة حفظ موروثهم الثقافي والاجتماعي لا سيما أن أوعية الحفظ والتدوين القديمة من نقش على الصخر ورسم على الألواح والجدر والجلود ونحوها قد تعرضت لعوامل التعرية الطبيعية والاندثار تحت ركام الأودية وأحراش الشجر وغيرها إن لم تكن قد تعرضت للعبث والإتلاف، مع هذا وذاك فإن بعض ممارسات وقيم تنسب للموروث والعادات أريد الاحتفاظ بها غير أن تطبيقها في عصور لاحقة قد لا يتناسب ويتماشى مع واقع الحال نظراً للمتغيرات في أحوال الناس ومفاهيمهم، ولأنه لا يمكن التمسك بعادة قديمة -كانت الحاجة تدعو لها في عصر مضى وانتهت معه تلك الحاجة- لمجرد أن الأجداد كانوا يفعلون ذلك، مع أن المنطق والعقل يقول إننا الآن نعيش في عصر سنكون بعده نحن الأجداد والقادمون هم الأحفاد ونحن الآن لنا من الممارسات ما يتماشى مع حاجتنا، وما يناسبنا الآن قد لايناسب الأحفاد ومن بعدهم فهل هم ملزمون بالتمسك به والعمل للحفاظ عيه بحجة الوفاء لنا كأجداد، في نظري أن مسألة الوفاء للأجداد تكون بصورة منطقية معقولة لا تركز على الجزئيات والتفرعات الهامشية الدارسة المنقرضة من التراثيات، إنما بالثبات على الأصول العامة الراسخة كالكرم (مثلاً) دون الإصرار على تفاصيل دقيقة عتيقة في مراسم إكرام الضيوف بزعم أنها ثوابت في تقاليد الأجداد، والأجداد ربما كانوا بدورهم قد جددوا في تفاصيل هذه المراسم، وقس على ذلك بقية فصول تراثية حق علينا أن نتمسك بها لتبقى حية ولكن بدماء متجددة ما تعاقبت الأجيال.