قدر الكاتب المسكون بهم أمته، المتضلع من قواعد اللعب السياسية، المتفحص لأشلاء القيم والمثمنات، أن يكون أبداً مقيماً على عتبات العصي من المشاكل، ليشقى بها، ويصطلي بحرها، وهو بهذا القدر المأزوم يلتقي مع الفتن كماء الطوفان على أمر قد قدر.
فالوضع العربي برق فيه البصر، وخسف القمر، وشأن المفكر السعودي أن يمد عينيه إلى تعاسات الآخرين، ليأسو، أو يواسي، أو يتوجع. لأنه مع أحداث أمته على سنن:-
(فلا نزلت علي ولا بأرضي.. سحائب ليس تنتظم البلادا)
وليس على سنن:
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر)
وحين يتناوش هذا الصنف من الكتاب مع الجبهات الباردة يجد نفسه في اللهب ولا يحترق، كمن (لا يموت فيها ولا يحيا) واجترار المآسي غذاء تضوى به الأجسام، فاحتماله الفكري كاحتماله الجسدي، والجسد حين لا يحتمل الصدمات العنيفة، يدخل في الغيبوبة، بحيث لا يعي ولا يحس ما حوله، وتلك نعم الله على الإنسان، فهو يحس ويتألم، وحين يتفاقم الألم يفقد وعيه، وقد لا يفيق، ولربما يكون الجنون أو الانتحار، وهما طريقان من طرق الرفض للواقع والخلوص من المواقف المتفاقمة، وهنا يأتي دور الإيمان الذي يحسم المواقف بالتسليم المطلق والإذعان الطوعي.
وإذا ضاع الإيمان فلا أمان، والأمل وحده يشد العضد ويؤجل الاستسلام، ولولا الأمل لضاقت الأرض على المرضى والمعوزين والمقهورين بما رحبت، وتلاحق الانهيارات في أنحاء الوطن العربي آيات ونذر لمن ألقى السمع وهو شهيد، والمدكر يقطع بأن هذا الطوفان الجارف الذي يجتاح الوطن العربي ليس طبيعياً، ولاسيما أنه يتتابع بأشكال منتظمة، وبنتائج متشابهة، وبأسباب وأساليب متقاربة، والمواطن العربي المأزوم، يعايش حكومات متسلطة، ذات بأس شديد وظلم عنيد، وأحلاف مذلة، تمدها بحبل من الناس.
وعلى الرغم من بوليسيتها ومخابراتها ومباحثها، فقد تهاوت كما لو كانت مؤسسة على شفا جرف هار، أحداث مربكة ومتسارعة وعصية على القراءة، ومستحيلة على التصور، ومحيرة للفكر، إنها نوازل لاتذعن لرهان، ووقوعات أوابد، لا يلحق بها حدس، مجرد بائع خضار على عربة في (تونس) يختلف مع مراقب البلدية، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، ثم لا يجد لغة يعبر بها عن رفضه واحتجاجه إلا أن يشعل النار في جسده، ليمتد لهيبها من المحيط إلى الخليج ملتهما الأصنام الصدئة، ومرمِّداً القلاع الورقية، وشافياً صدور قوم مؤمنين، ولما يزل ضرامها ينتهب الخطى، ليضع (خارطة طريق) جديدة، ولغة سياسية جديدة تنهض من حولها حرية الإرادة والتعبير، ويسقط حاجز الخوف ولغة التصنيم.
وتلك نتائج لم يحلم بها أحد من قبل، والثوريون العسكريون الذين تلاحقت انقلاباتهم الحمراء والبيضاء منذ سبعة عقود لم يقدموا بين يدي ممارساتهم ما يدرأ عنهم دعوة المظلوم ولاسطوة المقهور ولا مقت الله.
لقد سلكوا الطريق إلى سدة الحكم على الجماجم والأشلاء وبحيرات الدم، وظلت تلك الصور المرعبة فاصلة بينهم وبين الذين يتجرعون مرارات القهر والحرمان.
وحين شحنوا مشاعر الشعوب بالأحقاد والضغائن، وشدوا الوثاق، ولم يكن هناك من ولا فداء، غرقوا إلى الأذقان بالنعيم، وسخروا مقدرات الشعوب لتوفير الشهوات وإشباع الغرائز وتشييد القصور.
وكلما حاولت الشعوب التقاط أنفاسها وُوْجهت بمقامع من حديد، ولما أترفوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، إن الضربات الساحقة للطغاة والمستبدين مواعظ عملية، ومشاهد حية لمن خلفهم. وبأس الله يأتي الموغلين في الإيذاء بياتاً وهم نائمون، وقد يأتيهم ضحى وهم يلعبون، ولو أنهم رعوا ما تحت أيديهم من مسؤوليات حق رعايتها، لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولكنهم ظلموا وسرقوا وأترفوا، ونسوا ما ذكروا به، فأخذهم الله بما كانوا يكسبون، ومن ذا الذي يأمن مكر الله؟ {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، وكل من أورثه الله ملكاً أو مكنه من سلطة، ثم لم يرع حق الله فيها وحق من ولي شأنهم، يؤخذ بذنبه، وكم من جبابرة نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
وأساطين (البرامكة) من الفرس الذين نكبهم (الرشيد) يتناجون داخل السجن، ويحيل عقلاؤهم سبب ماصاروا إليه إلى دعوة مظلوم بليل غفلوا عنها، واليوم وقد بلغ السيل الزبى، لم يبق إلا الاتعاظ والتذكر ومحاسبة النفس (والكيس من دان نفسه) والعاقل من وعظ بغيره. وبلادنا التي أنجاها الله من تلك الويلات بما هيأ لها من سياسة حكيمة وقيادة رشيدة جديرة بأن يعتصم أبناؤها بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا، وأن يتقوا أخذ البغتة والإبلاس فالله يملي ويستدرج ولكن كيده متين، ولاسيما أن اللعب السياسية من حولنا ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر، والويل كل الويل لمن زج نفسه في أتونها طوعاً أوكرهاً، ولقد تفتح اللعب ملفات ملغومةكالطائفية والعرقية والتشتت الفكري لتفرق الكلمة وتشتت الشمل وتضرب الوحدة الاقليمية والفكرية في الصميم، هذه المخاضات الطبيعية والمبتسرة يخوض غمارها ذو العقل الذي يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة المتنعم في الشقاوة، وكلاهما في النهاية يعبر الحياة ليكون خبراً بعد عين وذكرى للذاكرين.
ويبقى الأمل كمشكاة فيها مصباح تعصف بنوره الخافت رياح هوج، تريد إطفاءه، ولكن الله متم نور الأمل ليظل العقلاء بين اليأس والرجاء.