تُجسِّد ذكرى يومنا الوطني في نفوس أبناء هذا الوطن الغالي الملحمة الكبيرة التي خاضها جلالة الملك عبد العزيز - طيّب الله ثراه - في توحيد هذه البلاد المباركة؛ حيث أمضى اثنتين وثلاثين سنة في لمِّ شمل هذا الوطن، بعد تشرذم وفرقة وتناحر فيما بينهم، وجمعهم تحت لواء واحد هو لواء التوحيد، فَسادَ الأمن والأمان والطمأنينة في سائر الوطن من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، وهذه الذكرى العطرة التي تمر علينا هذا اليوم والتي دخلت عامها الواحد والثمانين، إنما هي ذكرى جميلة سطّرها المؤسّس - رحمه الله - لبناء هذه الدولة.
فقد أرسى الملك عبد العزيز - رحمه الله - قواعد الحكم، وأسس الوزارات والمجالس الإدارية، ومجلس الشورى وغيرها من الإدارات المتعددة، واهتم بالحرمين الشريفين، واعتنى عناية خاصة بالحجاج والمعتمرين الذين يفدون إلى المملكة من كل فج عميق، فهيَّأ لهم سبل الراحة والطمأنينة أثناء حجهم أو عمرتهم.
وامتداداً لهذه الأعمال الجليلة واصل أبناؤه البررة من بعده إكمال مسيرة البناء والنمو، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من تقدم وازدهار وتطور.
وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - تقدمت الدولة تقدماً كبيراً في أنواع شتى من العلوم والمعارف، وقفزت المملكة قفزات سريعة إلى التقدم والرقي في الفكر والثقافة والمعرفة والحضارة.
ومن مشروعات الملك عبد الله الحضارية - حفظه الله - مشروع الحوار الوطني الذي حرص على تأسيسه ليحمل اسم والده، وصدر الأمر الكريم بتأسيس «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني»؛ وذلك إيماناً منه بأهمية الحوار في حياتنا اليومية، وأنه أصبح من الفرضيات الأساسية التي يحتاجها المجتمع بكامل أطيافه وشرائحه المتنوعة.
وأصبح مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني مصدر إشعاع لنشر ثقافة الحوار بين فئات المجتمع، وذلك عبر برامج ومشروعات متنوعة، أهمها: اللقاءات الوطنية التي يعقدها المركز كل عام، والدورات التدريبية التي ينظمها المركز في أغلب مدن المملكة ومحافظاتها والتي تهدف إلى غرس ثقافة الحوار في نفوس جميع فئات المجتمع رجالاً ونساءً، وكذلك الدراسات الاستطلاعية التي يجريها المركز لكشف مدى رضا المجتمع من عدمه عن بعض القضايا الاجتماعية والتعليمية والصحية والثقافية، كما يقوم المركز أيضاً بتبنّي البحوث والدراسات ذات العلاقة بالحوار وأهميته ودوره وأنواعه، ومن ثَمَّ تتم طباعتها وتوزيعها في أغلب المحافل الثقافية؛ سواء داخل المملكة أو خارجها مجاناً بقصد نشر ثقافة الحوار بين فئات المجتمع.
ومن ضمن اهتمامات المركز في نشر ثقافة الحوار، إقامة مشروع قافلة الحوار، والتي تُشرف عليها اللجنة الشبابية بالمركز، وذلك بالقيام بجولات في محافظات المملكة مع إقامة الدورات التدريبية والمناشط للطلاب والطالبات وأفراد أسرهم، بالإضافة إلى مشروع سفير الذي يهدف إلى التواصل الحضاري بين الشعوب ونشر ثقافة التسامح، وغيرها من برامج المركز وأنشطته المتنوعة.
اليوم يمكن القول بكل وضوح إنه مشروع الملك عبد الله الوطني والذي يمثل الحوار الوطني إحدى مكوّناته، قد ساهم بشكل كبير في إتاحة الفرصة للنُّخب السعودية بشكل عام والمواطنين بشكل خاص في المساهمة في مناقشة القضايا سواء السياسية منها أو الاجتماعية أو الفكرية وغيرها، وفي المقابل أيضاً ساهم الحوار الوطني في تقديم رؤى شعبية من المثقفين والمفكرين في كافة المجالات، قُدمت للدولة عبر منبر وطني لديه رصيد من الثقة من الطرفين يُعبر عنه حجم المساحة الوطنية المبنية على ثوابت مشروعنا الوطني.
وخادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - حريص كل الحرص على تفعيل الحوار لجعله سلوكاً ومنهجاً دائماً لجميع أبنائه في هذا الوطن، وامتداداً لهذا المشروع الكبير، عمل الملك عبد الله - حفظه الله - على أن يكون الحوار هو المحرك للمشهد الدولي في أغلب قضاياه الحضارية والدينية والثقافية؛ وذلك من خلال حرص المملكة ومساهمتها في تأسيس ثقافة حوارية تهدف إلى التعايش السلمي بين الأديان والحضارات، وتحرص على قيم التعاون والتسامح فيما بينها.
وكان أول لقاء ساهمت فيه المملكة هو «المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار» الذي عُقد في رحاب مكة المكرمة؛ وذلك في 30- 5- 1429هـ، الموافق 4-6-2008م؛ حيث ضم العشرات من علماء المسلمين قدموا إلى المملكة لحضور هذا اللقاء، وبعد هذا اللقاء اتجه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - إلى إطلاق الحوار العالمي بين الأديان والحضارات والثقافات العالمية، ففي الفترة 13-7-1429م، الموافق 16-7-2008م عُقد المؤتمر العالمي للحوار في مدينة مدريد بإسبانيا، وقد ألقى خادم الحرمين الشريفين خطاباً تاريخياً في ذلك اللقاء أوضح فيه أنّ الإسلام دين الوسطية والتسامح والاعتدال، وختم خطابه - يحفظه الله - بكلمات جميلة ومعبّرة قال فيها: «أيها الأصدقاء ليكن حوارنا مناصرة للإيمان في وجه الإلحاد، والفضيلة في مواجهة الرذيلة، والعدالة في مواجهة الظلم، والسلام في مواجهة الصراعات والحروب، والأخوة البشرية في مواجهة العنصرية»، وواصل خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - جهده في تبنّي مفهوم الحوار العالمي وتعزيزه، وكان اللقاء الثالث الذي عُقد تحت مظلة الأمم المتحدة، إنما يجسّد التقدير والاحترام الكامل لجهود الملك عبد الله في تبنّي الحوار بين مُختلف الأديان والثقافات، وألقى خادم الحرمين الشريفين كلمة ختامية في هذا اللقاء موضحاً رغبته في التآخي والألفة والمحبة بين شعوب العالم، واختتم خطابه بتشديده على أهمية الأسرة في المجتمع، ووجوب المحافظة على الأبناء والبنات والحرص عليهم.
وتُوّجت هذه الجهود بإنشاء مركز للحوار العالمي يحمل اسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو «مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات» ومقره «فيينا»، حيث يهدف المركز إلى تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، وتشجيع التفاهم والتعاون المشترك بين الناس، وكذلك معالجة التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات، مثل: تلك المتعلقة بالكرامة والإنسانية، والمحافظة على البيئة والتربية الدينية والأخلاقية، والحد من الفقر.
ومشروعات الحوار تلك التي تبنّاها خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - سواء في الداخل أو الخارج، إنما توضح دور المملكة وحرصها في نشر قيم التسامح والوسطية والاعتدال بين فئات المجتمع، ومحاربة التعصب بكل أشكاله؛ سواء كان هذا التعصب قبلياً أو مناطقياً أو مذهبياً أو رياضياً، ونبذ الإقصاء والتطرُّف بين فئات المجتمع المتنوعة.