العرب بارعون جداً في فنون الاختلاف، والتناحر، وتسمية الأمور بغير مسمياتها، و الكذب بأصدق الكلام. والمئة العام الأخيرة من تاريخهم الحديث قد تكون الأسوأ في مراحل تاريخ هو في مجملة تاريخ غير مشرف.فالعرب، مثلاً، وقفوا موقف المتفرج من الهجرة اليهودية المكثفة لأرض فلسطين وكانوا يحسبونها هجرة مؤقتة أو سياحة دينية فقط،
بل إن كثيراً من السماسرة العرب باعوا الكثير من الأراضي لليهود في بداية الأمر لأن أموال اليهود كانت آنذاك مغرية جداً، قبل أن يأخذ اليهود الصهاينة ما تبقى منها عنوة بعد أن تنظموا في جيش منظم استطاع هزيمة فلول جنود العرب الحفاة. وتبع ذلك هزائم متتالية تفننوا في تسمياتها وتوصيفاتها بشكل مضلل للشعوب: حرب الثمان وأربعين (وليست هزيمة الثمان والأربعين)، نكسة حزيران 1967م، نكسة وقتية فقط وليست هزيمة ساحقة، «انتصار حرب أكتوبر» التي انتهت بمعاهدة استسلام أطلقنا عليها معاهدة «سلام». ولا يستثنى من ذلك كلام مختلق من قبيل: «ضرورة استمرار مسيرة السلام»، «السلام العادل والشامل»، «سلام الشجعان» إلى غير ذلك من الاستعارات اللغوية المضللة.
ولو تعلم العرب من تاريخ من سبقوهم من المناضلين طوال التاريخ لعرفوا أن المفاوضات بدون قوة تدعم المفاوض هي مجرد استسلام مبطن. فقد فشلت أمريكا، راعية مسيرة السلام، مثلاً، في كل محاولاتها لإقناع الفيتناميين بوقف إطلاق النار من أجل بدء التفاوض. و اضطرت لمفاوضة الفيتناميين وحربهم على أشدها فانعكس ذلك ضعفاً على الموقف الأمريكي الذي طلب التفاوض، وانهارت معنويات جيشه، وتفككت جبهته الداخلية، وهرب السفير الأمريكي من هانوي نافذاً بجلده في هليوكوبتر صغيرة قبل دقائق من وصول المقاتلين الفيتناميين لاحتلال سفارته. وكان هنرى كسينجر، عراب مفاوضات سلامنا الحديثة مع إسرائيل، طيلة المفاوضات يمارس الهذيان بينما زعيم الفيتناميين «هوشي منه» يستمع، وجنوده يقاتلون.
وبالأمس خطب محمود عباس، وهو الذي تعهد بالاستقالة لأكثر من مرة إذا ما فشلت مفاوضات السلام أو توقفت، طالباً من الجمعية العمومية في الأمم المتحدة، منبر المستضعفين في هيئة الأمم، الاعتراف بدولة «فلسطينية كاملة العضوية»، وحجته في ذلك فشل «مسيرة المفاوضات» التي استبعد هو هيئة الأمم منها! وألقى باللائمة فيها على «صخرة مواقف الحكومة الإسرائيلية»، والتي هي في الواقع حكومات إسرائيلية متتابعة عاصر هو نفسه ثلاثا منها تغيرت جميعها وبقي هو صامداً على رأس السلطة الفلسطينية. وكان الخطاب ضعيفاً، وتقليدياً، وغير مؤثر، و ألقاه شخصاً تعوزه الكاريزما والقدرة على الخطابة. بل إنه لم يخلُ من بعض الهنات، فتشبيه مواقف الحكومة الإسرائيلية «بالصخرة» ينطوي على استعارة غير موفقة، جعلت الرئيس يبدو وكأنما هو يمتدح تلك المواقف، وفشل في إدانة الحكومات الإسرائيلية ذاتها عوضاً عن صخرة مواقفها التي عرف الجميع عنها التطرف والعنصرية. كما أنه أردف قائلاً «: إنني أؤكد هنا باسم منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، والتي ستبقى كذلك حتى إنهاء الصراع من جوانبه كافة، وحل جميع قضايا المرحلة النهائية.» وتأكيده هذا يظهر أن هناك من ينازعه في تمثيل الشعب الفلسطيني، أو أنه هو غير واثق من شرعية تمثيل منظمته لجميع فصائل الشعب الفلسطيني. وعموماً، وفي رأي الكاتب فقد كان الخطاب دون التوقعات. وبدأ وكأنما هو سرد تاريخي لقضية أصبحت من طول مفاوضاتها معروفة للجميع.
و يمكن القول إن الثابت الوحيد في الموقف الفلسطيني طيلة تاريخه التفاوضي هو الانقسامات، وغياب النضال الحقيقي على الأرض الذي يدعم هذا الموقف، إذا كانت المفاوضات تتبع الانتفاضات الشعبية، وشرط بدئها التي تلتزم به السلطة دائماً هو توقفها. وكان هناك انفصال أيضاً بين قيادات التفاوض و قيادات النضال الحقيقي في الشارع، ولذلك سهُل على رعاة المسيرة، والذين يدعم معظمهم الموقف الإسرائيلي لأسباب عقدية وإيديولوجية، دفع الجانب الفلسطيني للتنازل ولمزيد من التنازل. بينما اتسم الموقف الإسرائيلي دائماً بالتماسك، والتصلب ووضوح الرؤية مهما اختلفت الحكومات الإسرائيلية يميناً أو يساراً: رابين، واولمرت أو شارون ونتنياهو، تكثيف الاستيطان وقضم المزيد من الأرض، ووضع شروط تنازلات تتجدد باستمرار أمام الفلسطينيين.
في أوسلوا، مثلاً، جرى تبادل الاعتراف، أغرب تبادل اعتراف في تاريخ المفاوضات الحديث، حيث قدم الفلسطينيون اعترافاً مجانياً لإسرائيل المغتصبة لأرضهم «كبلد ذي سيادة كاملة» مقابل الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني! ومنظمة التحرير كممثل وحيد للشعب الفلسطيني وكأنما منظمة التحرير الفلسطينية تستجدي اعتراف خصمها إسرائيل لدعمها للبقاء كممثل للشعب الفلسطيني في المفاوضات. وما يعني ذلك، بلغة المصالح، هو أن تبقى «فتح»، أو «السلطة الفلسطينية» كمسمى آخر، ممثل وحيد يتسلم، وله حق التصرف التام بالمعونات والمساعدات التي تقدمها المنظمات الدولية والدول الداعمة للشعب الفلسطيني بما فيها معونات دعم استمرار الانخراط في عملية مفاوضات السلام، ولا ننسى ذكر الأموال التي تحصلها إسرائيل كضرائب وجمارك من الفلسطينيين. وهو ما يفسر استمرار منظمة التحرير طيلة هذه الأعوام في عملية التفاوض العبثية لأن توقف المفاوضات يعني توقف الكثير من المعونات. وأخطر ما في الأمر هو دفع المنظمة للقبول بتغيير الصفة القانونية للأراضي الفلسطينية من أراض محتلة إلى «أراض متنازع عليها»، أي أن للإسرائيليين حقاً مساوياً في الأراضي الفلسطينية المتبقية للتفاوض! وبعد ذلك انشغل المفاوض الفلسطيني، أو أُشغل بصراعه مع القوى الأخرى الرافضة للمفاوضات كحماس التي تمولها إيران وتدعمها سوريا لحسابات إقليمية. فما الأسباب المحتملة لهذا التحرك المفاجئ نحو هيئة الأمم المتحدة، وقد سبقه خطابات سابقة للرئيس الراحل عرفات في مناسبتين: 1974، 1988م، محصلتها كانت التعاطف من كثير من الدول المستضعفة و لا شيء غير التعاطف.
وربما يكون من الأسباب الحقيقية لهذا التحرك هو شعور منظمة التحرير أنها وصلت إلى نهاية المسار التفاوضي نتيجة لشعور إسرائيل مرحلياً بعدم الحاجة له كغطاء للاستيطان، ولأنها أصبحت مؤخراً عبئاً يحد من زخم الاستيطان المتسارع، وفقدت السلطة حضورها على الساحة الدولية كممثل لقضية دولية مركزية نتيجة لتراجعها على سلم أولويات القضايا الدولية. وإذا كان توجه الرئيس الفلسطيني للأمم المتحدة سببه تعنت إسرائيل واستمرار الاستيطان، فكان يجب أن يتوجه للأمم المتحدة من اللحظة الأولى لتوقف المفاوضات، وليس الآن. و العامل الآخر هو توجس السلطة من تحرك الشارع الفلسطيني ذاته تجاه سلطته التي أصبحت معطلة وبلا عمل نتيجة لتوقف المفاوضات، فالكثير من الفلسطينيين أصبح ينظر للسلطة الفلسطينية على أنها لا تختلف في شيء عن القيادات التي خرجت ضدها ثورات الربيع العربي. أما ما قيل عن تعويل السلطة الفلسطينية على دعم من بعض الدول العربية أو الإقليمية فهو غطاء لهذا التوقيت فقط. فالمؤشرات الحقيقية تظهر تمسك المجلس العسكري المصري وأي حكومة مصرية قادمة بمعاهد السلام مع إسرائيل، وأن تركيا قد تركت طريق عودة لتجديد علاقاتها بالكيان الصهيوني.
البوادر جميعها تشير إلى أن الأثر الحقيقي لتقديم طلب العضوية في الأمم المتحدة سيكون معنوياً فقط، فالجميعة العمومية، «هايد بارك» الأمم المتحدة هي منبر للتنفيس فقط. ومثل هذا التحرك قد يستهلك محلياً ليظهر السلطة الفلسطينية وكأنما هي مستمرة في نضالها من أجل نيل الدولة الفلسطينية. وأسوأ ما في الأمر هو أن تقدم السلطة الفلسطينية مزيداً من التنازلات من أجل الحصول على هذه الدولة المنتظرة لأنها قد تحس، كما أحس أنور السادات من قبل في موقع مشابه، أنها وصلت لنقطة اللاعودة خالية الوفاض.
latifmohammed@hotmail.com