المعرفة العلمية ليست حكراً على المتخصصين بل هي ضرورية لكل فرد من أجل التعامل مع قضايا العصر الصحية والتكنولوجية والبيئة والاجتماعية والاقتصادية. ومن هنا أعدت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية مشروع الإستراتيجية الوطنية لنشر الثقافة العلمية بالتعاون مع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
تنطلق الإستراتيجية بما أقرته إستراتيجية التنمية بعيدة المدى (2025) في التوجه نحو مجتمع المعرفة، وضمن متطلبات الخطة الوطنية للعلوم والتقنية والابتكار. رؤية الإستراتيجية الوطنية لنشر الثقافة العلمية تمتد إلى عام 1450هـ، آملة بتمتع مجتمع المملكة بثقافة متقدمة عالمياً، يكون فيها المحتوى الثقافي متطوراً كماً ونوعاً ويساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
تحتوي الإستراتيجية على ثلاثة أجزاء. يضم الجزء الأول نشر الثقافة العلمية من ناحية إنتاج الثقافة والمصادر الفكرية ووسائط النشر، وتوظيف الثقافة والاستفادة منها، كما يشمل رصداً للوضع الراهن وتحليله مع طرح القضايا والتحديات. فيما يحتوي الجزء الثاني على منطلقات الإستراتيجية ورؤيتها والأهداف العامة والسياسات التنفيذية. أما الجزء الثالث فيغطي تنفيذ الإستراتيجية شاملاً الأهداف المحددة والخطط الخمسية ومحاور العمل ذات الأولوية، ثم وسائل وآليات التنفيذ، تليها المتابعة والتقويم، ثم أخيرا دور الجهات المعنية.
الإستراتيجية وضعت بطريقة منهجية استقرائية وكانت شاملة ومحكمة، وهي بحد ذاتها كعمل ثقافي علمي ثرية ومفيدة جداً لأي قارئ أيا كان مستواه العلمي. ومن أكثر الأجزاء إثارة هو دراسة الوضع الراهن وما يشمله من نتائج مفاجئة. ومن أمثلة ذلك أن النسبة العظمى من طلاب الجامعة السعوديين لم تحضر أي فعاليات للثقافة العلمية، وأنها لا تتابع أية برامج علمية في التلفزيون والإذاعة، ولا أية أخبار علمية بالصحف والمجلات، وأن مفهوم الثقافة العلمية والمصطلحات الأخرى المرتبطة به غامضة لديها.
كما توضح الدراسة ضعف ميزانيات إنتاج البرامج العلمية وقصر المدة الزمنية لها، وأنها تفتقد للتواصل مع الجمهور. أما على مستوى العالم العربي فتشير الدراسة إلى أن قناة الجزيرة الوثائقية تميزت بما قدمته من أفلام وحلقات علمية متخصصة، مع الإشارة إلى القنوات الناطقة بالعربية وفي مقدمتها بي بي سي وقناة روسيا اليوم.
وتوضح الدراسة أن عدد الكتب والمجلات والنشرات الثقافية في المملكة قليل جداً لا يتناسب مع حجم المملكة السكاني، إذ تم رصد 2518 كتاباً في الثقافة العلمية، فيما لا تتوافر المجلات والنشرات العلمية في المكتبات التجارية ولا المكتبات العامة، باستثناء 20% من المجلات في المكتبات التجارية. كما أن نصف هذه الكتب خالية من الصور والألوان والرسوم، مما يوحي بأن الاهتمام بالإخراج ما زال ضعيفاً.
وقد نال الاهتمام بالصحة والدواء وبفارق هائل عن جميع المجالات العلمية الأخرى، حيث استحوذت على 60% من الكتب والمجلات والنشرات العلمية، ثم البيئة وتقنية المعلومات والاتصالات حوالي 9% لكل منهما. سوء توزيع القضايا العلمية يمتد أيضا للصحافة السعودية، إذ تهيمن موضوعات الصحة والدواء بنسبة تتجاوز 60% من المادة المنشورة، تليها تقنية المعلومات بنسبة 20%.
بينما تتواضع النسبة في مواضيع البيئة والزراعة والعلوم الأساسية لدرجة الندرة. وفي الملاحق يتضح أن صحيفة الاقتصادية ثم الجزيرة تتقدم بنسبة 24 و17% على التوالي من إجمالي المواد العلمية المنشورة في صحف الدراسة (البلاد، الندوة، المدينة، الشرق الأوسط، الحياة).
ويلاحظ على دراسة الوضع الراهن عدم تحديد الفترة الزمنية في أغلب الأوضاع التي درست، ولا مدى شموليتها، بمعنى هل هي تغطية شاملة للنشاطات موضوع البحث أم عينات عشوائية. مثلاً، تجد في موضوع الإذاعات والفضائيات إشارة إلى أنها دراسة 66 برنامجاً إذاعياً و162 برنامجاً تلفزيونياً جرى تحليلها إحصائياً.. فلا تعرف هل هي عينة أم هي تمثل مسحاً كاملاً؟
كما يلاحظ على دراسة الوضع الراهن اختفاء أهم عناصر بناء الثقافة العلمية وهي المناهج العلمية في التعليم العام والعالي، باستثناء لمحة موجزة عن واقع الثقافة العلمية في التعليم تناول مفهوم الثقافة العلمية ومدى اهتمام الطلاب بهذه الثقافة. وفي هذا المجال أذكر من أهم الدراسات الإستراتيجية لإصلاح التعليم هو ما أصدره مركز Ideation الذي ركز على السعودية كحالة دراسة، موضحاً أن المناهج العلمية (الرياضيات والعلوم) تنال أهمية أقل من المناهج الدينية مما لا يتناسب مع التطورات التكنولوجية والعلمية في عالم اليوم المتسم باقتصاد المعرفة التكنولوجية والعلمية. وقد سبق للدكتور أحمد العيسى في دراساته أن أوضح أنّ النظام التعليمي في المملكة يهتم بالعلوم الشرعية والعربية في مراحل التعليم العام على حساب العلوم الأخرى خاصة العلوم الطبيعية والرياضيات والعلوم الاجتماعية.
ويوضح أحد جداول دراسة مركز Ideation أنّ نسبة المواد الدينية في التعليم الابتدائي بالسعودية بلغت 31% في السعودية تليها عمان 20% فالإمارات والكويت 13%. أما العلوم الطبيعية والرياضيات، فقد نالت 20% بالسعودية ثم 22% بالكويت و25% بالإمارات و26% بعمان. وإذا قارنا هذه النسبة مع الأردن الذي يعتبر نظامها التعليمي ناجحاً نسبياً، حسب الدراسة، نجد أنّ نسبة المواد الدينية نالت 10% مقابل 36% للرياضيات والعلوم. وقد بدأت عمان والإمارات في تغيير تدريجي لنظام تعليمي جديد بدلاً من القديم. فمن حيث نسبة المواد، سيكون نصيب الرياضيات والعلوم 35% لعمان و29% للإمارات مقابل 12% و9% للمواد الدينية على التوالي للبلدين.
وبمقارنة هذه النسب مع ما صدر عن كمية المقررات الدراسية الجديدة المطورة للمرحلة الابتدائية في السعودية، نجد أنها لا تكاد تختلف عن القديمة. حيث تتراوح النسبة للمواد الدينية بين 29 و32% بينما لم تحظ نسبة الرياضيات والعلوم إلا على حوالي 24% أي زيادة طفيفة للأخيرة عن النظام القديم قبل التطوير. فلا أدري عن أي تطوير أو إصلاح نتحدث من هذه الجزئية؟
نسبة المواد العلمية (العلوم والرياضيات) في المناهج السعودية هي الأقل في العالم، بل وتصل إلى نصف النسبة مقارنة ببعض الدول!! ولم أفهم لماذا غابت المناهج عن إستراتيجية الثقافة العلمية، ربما لأنها ليست موجودة ضمن أهداف الإستراتيجية؟ لكن أيضا لماذا؟ ربما لأن المؤسسات البيروقراطية لا تتدخل في بعضها البعض، فمدينة الملك عبد العزيز لها شؤونها ووزارة التربية والتعليم لها شؤونها.. والنتيجة هي غياب الطلاب عن الثقافة العلمية.
alhebib@yahoo.com