كان السنة طوال تاريخهم، وما زالوا، الأكثر تسامحاً ومعايشة للديانات والطوائف الأخرى، وعلى وجه الخصوص الطوائف المسيحية العربية. ويعتبر كثير منهم، وجودهم ضرورة لنا كعرب ولتنوعنا الفكري والديني. وهذا لم يأت من فراغ،
بل ومن إخلاص المسيحيين العرب لعروبتهم وللعرب الآخرين جميعاً. ولا ينكر إلا جاهل أو حاقد دور المسيحيين العرب، في النهضة العربية قديماً وحديثاً، فهم من صلب النسيج العربي الرائد والمبدع. بل ولا ننكر دورهم في المساهمة في صد الهجمات الصليبية على المسلمين في فلسطين وغيرها يداً بيد مع إخوانهم المسلمين قبل ذلك. فالكنائس عموماً تختلف عن بعضها باختلاف الأناجيل وتفاسيرها، فالكنيسة الشرقية العربية ظلت دائما في علاقة أخوة مع جميع المسلمين باختلاف طوائفهم. وبعض أشقائنا المسيحيين يعرفون القرآن الكريم، والسنة النبوية، أكثر ما نعرف نحن عن أصول دينهم وهذا أمر يحسب لهم ونأسف له، بل إن بعضهم كتب أنه ينصت لترتيل القرآن ويخشع لسماعه. ومعظم الخليجيين، والسعوديون على وجه الخصوص، يفضلون التعامل والسكن في المناطق المسيحية في لبنان حيث الناس أكثر تعليماً وأسهل تعاملاً، ومناطقهم، باعتراف الجميع أكثر تسامحاً، وأكثر تنظيماً ونظافة. والسنة اللبنانيون ذاتهم كان لهم تحالف دائم مع قطاع كبير من اللبنانيين المسيحيين الذين يشاركونهم في أهدافهم النبيلة لتطوير لبنان والنهوض به كبلد ديمقراطي متعدد الطوائف.
ولذا، ولأسباب أخرى، صدم الكثير من المراقبين من المسحيين اللبنانيين، والسوريين، والسنة وغيرهم من تصريحات نسبت لغبطتكم في باريس (غبطة البطريرك الماروني اللبناني بشارة الراعي في باريس) والتي عبرتم فيها عن قلقكم على سلامة المسيحيين السوريين واللبنانيين فيما لو زال حكم بشار الأسد، وتولت الأغلبية السنية الحكم في سوريا! كلام نأمل ونتمنى أن يكون نقل خطأ عنكم، لأن غبطتكم لا يمكن أن يتجاهل الواقع، ويجافي الحقيقة، ويجانب الصواب بهذه الطريقة غير المحسوبة، وفيما لو كنتم ذكرتم ذلك حقاً، واستشهدتم بوضع المسيحيين اليوم في العراق، فهذا أغرب من سابقه.
والكاتب هنا ليس بصدد الدفاع عن السنة أو أي مذهب آخر لأن الرد على تصريح طائفي بآخر من جنسه يعد تكريرا وتكريسا للخطأ بعينه. لكن الواقع يقول بأن السنة طيلة تاريخهم تعايشوا مع جميع الطوائف والديانات الأخرى وعلى وجه الخصوص المسيحيين منهم. حتى في أيام الفقر، والخوف، وانعدام الأمن، والعوز في الجزيرة العربية كان المسيحيون واليهود يفدون لـ(الجزيرة) العربية ويقيمون مع أهلها أشهرا وسنين، معززين مكرمين تحت حمايتهم وضيافتهم، بدءا من مستشرقين من أمثال الليدي بلنت، واللواء موسز، وليوبولد فايس (محمد أسد لاحقاً)، ومروراً بجون فيلبي، وأمين الريحاني، وانتهاءً بالأسر المسيحية الكريمة التي تقيم فيما بيننا اليوم في بيتها الثاني، تمارس أعمالها التجارية وغيرها بحرية تامة. فمن أين خطر لغبطتكم هذا التوجس؟
إذا كان ذلك مصدره ما حصل ويحصل مؤخراً في العراق من عنف نحو إخوتنا المسيحيين فهذا أمر لا نقره نحن أيضاً وشجبه الجميع شعوباً وحكومات سواء ضد المسيحيين، أو ضد أي من الأبرياء السنة، أو الشيعة، أو العلوية، أو اليهود، أو غيرهم. فالله كرم الإنسان وعم في ذلك ولم يخص. وهذا العنف، إضافة لذلك، عنف أعمى لم يوفر أحد في العراق مهما كان دينه أو اختلفت طائفته، ومن يحكم العراق اليوم، ولا أظن أن الأمر يخفى على شخص بإطلاع غبطتكم، ليس السنة، ولا حتى جميع الشيعة، بل هم من الشيعة لهم ارتباطات إقليمية يعرفها الجميع، وقد يكون امتداد في لبنان. بل إن المرء يستطيع الاستنتاج من دفاعكم القوي عن حكم البعث السوري بأنكم ربما كنتم تحنون لأيام الحكم البعث العراقي التي كان فيها المسيحيون العراقيون يعيشون بسلام ووئام، وللتذكير فقط فالبعث العراقي كان على رأسه شخصيات سنية، ورئيس الحزب صدام حسين كان سنياً، وشارك فيه شيعة وسنيون، ولكن ذلك لم يكن مبرراً لنا نحن السنة أن ندعم صدام حسن وحكمه الطاغي في العراق والذي كان أكثر المضطهدين فيه هم من الشيعة العرب. فالإنسان هو الإنسان مهما كان دينه ومهما كانت ملته أو طائفته، ولذا فوقوفكم لجانب الأسد تخوفاً على مسيحي سوريا ولبنان يتجاهل طبيعة حكم البعث الأسدي، ولا يصب في النهاية في مصلحة طائفتكم.
الشعب السوري، بكافة دياناته وطوائفه، شعب طيب ومسالم، ولكنه فاض به الكيل من حكم طغمة عسكرية فئوية، طائفية مذهبها العنف، وديدنها الفساد. أما رأيتم غبطتكم جنود الأسد يطلبون من الناس تأليه الأسد والشهادة والسجود له؟ أما رأيتم المنشدين السلميين تقتلع ألسنتهم، وحناجرهم وهم أحياء، ألم تأخذكم الرأفة المسيحية بأطفال في عمر الورود وقد حفرت سيقانهم بالمثاقب الكهربائية، وأحرقت أجسادهم الغضة بنيران المسامير الساخنة، وكسرت رقابهم في تعذيب قاتل وحشي لا يمت للعالم المتحضر بصلة، بل إن بعضهم خرج دماغه مع أذنيه من شدة التعذيب؟ فنان مثل فنان الكاريكاتير علي فرزات، صديق شخصي للأسد الذي تدافع عنه، وهو للتذكير ليس سنياً، كسّرت يديه وأصابعه حتى لا يرسم مرة أخرى، بل إن الحمير، أكرمكم الله، أضعف وأجهل مخلوقات الأرض، لم تسلم من إبادة الأسد الجماعية وعلى الملأ جميعاً. بعد هذا كله وأكثر، هل ما زلتم تصرون أن هذا النظام أفضل لأمن سوريا؟ وأفضل لمسيحي لبنان من نظام سني فيما لو وصل السنة للحكم؟
الجميع: مسيحيين، وعلويين، وسنة، فيما عدا فئات انتهازية صغيرة ليس فقط يخالفون غبطتكم الرأي، بل لا يصدقون أن مثل هذا الرأي قد يكون صدر من شخص بعلمكم، وإنسانيتكم. بقي أمر واحد فقط، وهو أن تصريحكم، حفظكم الله، ربما كان لحسابات ومواقف داخلية، ونحن قد نعذركم وقد نفهم إذا ما كان تصريحكم صادرا عن توجس وتخوف من تهديد داخلي مصدره طائفة أخرى، ونتفهم ذلك جيداً، فلبنان ليس بغريب ولا بعيد عنا. ومن يخيفكم هو من يمثل قوة لها تمثيل ونفوذ في عراق اليوم الذي اتخذته مثل سوء تخشى على سوريا بعد التحرير من مآل مثله.
أما السنة فلا خوف عليكم منهم ولا يحزنون، دعاة سلام ووفاق وليسوا دعاة عنف وشقاق، بل هم في معظم الأحيان، وهم غالبية في الوطن العربي، ضحايا للعنف من طوائف أخرى. هاهم في ليبيا، للمثال فقط، يعلنون في مجلسهم الوطني، الذي يرأسه شيخ سني جليل، هو مصطفى عبدالجليل، أن لبيبا التي يدعون لها، هي دولة حرة وسطية ديمقراطية تعددية لا مجال فيها للطائفية أو الفئوية أو غيرها.
وسوريا الحرة التي يطمح الجميع لها، لا تميّز بين سنة، أو علوية، أو مسيحيين، أو صابئة، أو يهود هي سوريا لجميع السوريين. فسوريا ما بعد الأسد، أيا كانت طائفة من يحكمها، سنة أو غيرهم، ستكون بلا أدنى شك دولة أفضل بكثير لإخواننا الموارنة، والأرثوذكس، من سوريا الأسد. بل إنها يمكن أن تمد يد المساعدة والحماية للبنان المسيحي الذي يعيش تحت رحمة وابتزاز السلاح الطائفي. ولا زلت أتذكر غضب كاتب لبناني كبير عندما قلت له، إبان الحكم السوري للبنان، إنه قد يكون من الأفضل لسوريا أن يحكمها لبناني وليس العكس. وفي الختام اسمحوا لي أن أسأل غبطتكم عمن سبق ونحر المسيحيين في لبنان، هل هم السنة؟ أم الأسد الوالد والأسد الابن؟ فكيف سيتآمر عليكم سنة سوريا مع سنة لبنان؟ صدق قائل «رب كلمة قالت لصاحبها دعني!»
latifmohammed@hotmail.com