إنَّ من أصعب اللحظات التي يعيشها المرء هي لحظات إبلاغ خبر لفقد حبيب سواء كنت المتلقي أو تكون المُبلِغ، وما يزيد الأمر صعوبة أن يبلغك شخص عزيز أو تبلغه أنت، وحيث إن الله تعالى أكرمني بفضله أن نشأت في بيت علم ودين كان جل طفولتي بين كنف جدي لوالدي الشيخ ضيف الله البدراني -رحمه الله- وجدي لوالدتي فضيلة الشيخ عبد الله السويل اللذين كانا من أقرب الملازمين لسماحة الشيخين العلامة عبد الرحمن السعدي وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين -رحم الله الجميع- كنت أنهل منهما كل فضيلة بالدين والخلق الحسن ومنهما، عرفت معنى التسامح وحسن الخطاب والحديث ولن أبلغ بيوم أن أرد لهما أدنى جزء من أفضالهما عليَّ ما حييت، فلما فقدت جدي لوالدي شعرت أن جزءاً من كل شيء في حياتي غاب، ولكني أهون على نفسي بوجود علم آخر بحياتي وهو جدي لوالدتي فضيلة الشيخ عبد الله العبد الرحمن السويل الذي يحفظ بذاكرته كل فضائل جدي لوالدي، وعندما أجلس معه وأتقرب منه لأصبر نفسي يذكرني بنفس ما كان يذكره به صاحبه الآخر، مما يزيد على قلبي الألم والخوف من القادم. وكان فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين كثير السؤال عن الاثنين ولا تزال ترن في مسامعي كلمته -رحمه الله- عندما قال لي إنني السبط الحظيظ بهما، وكثيراً ما يسرد لي جدي عبد الله السويل كيف كان يتعلم ورفيق دربه الشيخ محمد بن عثيمين تحت مأذنه الجامع الكبير، وكيف كان يذهب من بيتهم في الوادي شمال عنيزة إلى المجلس وهو كفيف البصر، وكيف يقوم بالكثير من أموره في طلب العلم وهو الذي فقد بصره قبل أن يبلغ الحلم، ثم كيف تزوج وأنجب وقدمنا نحن الأسباط أبناء بناته ولم ير أحداً منا لا الزوجة ولا البنات ولا الأحفاد، ولكننا نعلم كثيراً أنه كان خير من يعرفنا وأفضل من يرانا، رجل تولى إمامة المسجد أكثر من ستين عاماً، يقضي فيها الكثير من الأمور لطلبة العلم ومن رافقه في طلب العلم، يرفض بشدة أن نأخذه للمسجد أو نعيده بالسيارة لسبب لم نعرفه إلا بعد ما كبرنا، لأن الكثير من الأشخاص كانوا ينتظرون خروجه من المنزل إما لسؤاله في حاجة في الدين أو علم وكذلك العودة من المسجد وهم أكثر، يأتون للصلاة خلفه منهم من يسأله في المسجد ومنهم من يأخذه إلى موقع كان فيه خلاف بين أي شخصين لحل خلاف بين اثنين.
رحل عطر المحراب الذي قضى ستين عاماً لم يتخلف عنها بفرض واحد مهما كانت الأسباب، فبعد أن أدى فريضة الحج الواجبة والعمرة لمرة واحدة في شبابه لم يتخلف عن إمامة المصلين لأي سبب، وبعد أن بلغ التسعين -رحمه الله- لم تعد قواه تساعده، طلب أن يكون له سائقاً لإيصاله للمسجد فقط، فكان -رحمه الله- كثير السؤال عن حوائج المسجد من القائمين عليه.
وها قد تكرر المشهد للمرة الثانية عندما تبلغني والدتي -حفظها الله- في فقد جدي الأول وجدي الثاني فكانت هي الوسيط الوحيد وخير من يبلغني في فقد من تجاوزت مكانتهما العينين وليت الأعين تفي لهما المكانة.
فما بعد هؤلاء تدمع العين ولا يتسع القلب لحزن أكبر من فقدهما.
خالد عبد الله البدراني