يبدو أن أيام الرئيس القذافي باتت معدودة فعلاً وليس مجازاً، بل لا أدري هل سيكون ما يزال حاكماً لطرابلس عند نشر مقالي هذا يوم الثلاثاء أم لا؟ كل المؤشرات تقول: إن سقوط طرابلس في أيدي الثوار بات أمراً لا جدال فيه. سقوط العاصمة طرابلس ليست مؤشراً كافياً لنجاح الثورة الليبية، بل إن المرحلة الأصعب هي ما بعد سقوط القذافي، وكيف سيواجه الثوار الفراغ السلطوي الذي سيحدثه غياب القذافي عن العاصمة، واحتمال انفلات الأحقاد من عقالها التي كبتت لأكثر من أربعين عاماً، بشكل قد يجعل الانفلات الأمني، وكذلك الثأر والثأر المضاد هو الظاهرة المسيطرة على الأوضاع بعد غياب سلطة القذافي.
وكما علمنا التاريخ فإن التحدي الحقيقي للثورات يكمن في كيفية الانتقال من الثورة إلى الدولة؛ هذا الانتقال يتطلب زمناً قد يمتد لسنوات، وربما عقوداً كما هو الأمر مع ثورة الخميني، التي لم تنتقل حتى الآن وبشكل كامل من الثورة إلى الدولة. ربما أن من حظ الليبيين أن انتفاضتهم، أو قل : ثورتهم المسلحة، كان لها رأس وقيادة؛ فقد كان المجلس الانتقالي بمثابة المؤسسة التي تقوم بقيادة الثورة، وهذا -ربما- سيقلل من أخطار الفراغ السياسي المحتمل حدوثه بعد القذافي بعض الشيء، غير أنه لن يُلغيه تماماً؛ لأن نسيج الثوار السياسي يتكون من أيديولوجيات وقبائل وأطياف شتّى مختلفة ومتباينة سياسياً وثقافياً، يجمعهم الآن عداوتهم للقذافي واتفاقهم على ضرورة إسقاطه، وعندما يتحقق هدف الإسقاط ستطفو هذه التباينات حتماً على السطح؛ ولا أعتقد أن من السهولة السيطرة عليها؛ فالمجلس الانتقالي الليبي لن يرث جيشاً منظماً ولا مؤسسة أمنية بإمكانها أن تكون بمثابة عصا السلطة في يد المجلس، وإنما مجموعات عسكرية أقرب إلى الميليشيا منها إلى التشكيلات العسكرية أو الأمنية المحترفة؛ وهذه المجموعات من السهولة تفككها، وربما تمردها، وتشرذمها إلى مجموعات متناحرة عندما تجد أن ثمة ما يُبرر هذا التمرد، خاصة وأنها ستعتبر نفسها شريكة شراكة كاملة في انتصار الثورة وإسقاط القذافي؛ لذلك ستجد أن فرض قناعاتها، أو أيديولوجياتها، على سلطة ما بعد السقوط له ما يبرره.
ومن يحاول أن يقرأ تباينات المجموعات المكونة لكتائب الثوار يلمح بوضوح أن نقاط الاختلاف الأيديولوجي بين مكونات هذه الكتائب أكثر من نقاط الاتفاق، ما يجعل مهمة من سيتولى السلطة بعد القذافي في غاية الصعوبة.
التحدي الآخر الذي كان غائباً أو مُغيباً أثناء حكم القذافي هو التباينات والصراعات القبلية. ليبيا تتكون من متحف قبائل؛ وحضور القبيلة مازال قوياً وفاعلاً؛ صحيح أن حكم القذافي الشمولي قد قلل من فعالية القبيلة وسيطرتها وسطوتها الاجتماعية والسياسية، غير أن غياب السلطة المركزية القوية، سيجعل هذه المرجعيات الاجتماعية تعود ثانية إلى الظهور والفاعلية، خاصة وأنها ستكون بمثابة التكوين الاجتماعي (الوحيد) الذي سوف يلجأ إليه الليبيون إما للحفاظ عليهم وعلى مصالحهم، أو للتعبير عنهم وعن طموحاتهم؛ سيما وأن المجتمع الليبي أثناء حكم القذافي كان مجتمعاً فارغاً من أية مؤسسات رسمية أو أهلية من شأنها ملء الفراغ الذي سيترتب على سقوط سلطة القذافي، الأمر الذي يجعل (القبيلة) مرشحة للقيام بهذا الدور.
والسؤال المهم الآن: هل سيستطيع المجلس الانتقالي الليبي في بنغازي ملء الفراغ، وإقامة الدولة وإيجاد (دستور) يتفق عليه الليبيون بمختلف توجهاتهم، وبالتالي الانتقال بسلاسة من الثورة إلى الدولة، أم أن وراء الأكمة من الخلافات الأيديولوجية والقبلية ما سوف يُجهض آمال الثوار، وبدخل ليبيا في أتون الحرب الأهلية والفوضى؟.. كل الاحتمالات واردة، ولا أحد يستطيع الجزم بما يُخبئه المستقبل لهذه القلعة التي كانت (مصمتة) في عهد العقيد فانفتحت فجأة، واستأثرت باهتمام العالم.
إلى اللقاء.