أمَّا السبب الثالث لتراجع المستوى الفني لقصائد الغزل عند الشاعر - وهو أهم هذه الأسباب وأبعدها أثراً في شعر الشاعر - فهو: غياب التجارب الواقعية المحرِّضة للرؤى الشعرية في هذا المجال، وهذا في الحقيقة سبب موضوعيٌّ عامّ يشترك فيه كثير من الشعراء السعوديين الذين يعيشون في بيئة محافظة، وهو ما يجعلهم أبعد عن التعرُّض للتجارب المَشُوبة بالتجاوز التي قد يتعرّض لها شعراء آخرون يعيشون في بيئات مُغايرة.
وكان الشاعر قد ألمح إلى شيء من هذا في قصيدته: بلوى من ديوانه الأخير : نسيان يستيقظ، وفيها يسخر - خلف غِلالة من الصوَر المعبِّرة - ممّن يلومه على خلوّ شعره من وصف التجارب غير المشرِّفة التي يتبجّح بوصفها بعض الشعراء المتجاوِزين. وتذكّرنا سخرية الشاعر هنا بعبارة ابن الرومي الشهيرة في معرض تعليقه على تشبيهات ابن المعتزّ المترَفة؛ حين قال: إنه يصِف ماعون بيته !
وهذا السبب الأخير يحتاج إلى وقفة مستقلة ومتأنّية؛ بسبب الالتباس الواقع فيه؛ ذلك لأن التحريض الشعري في هذا المجال لا ينحصر مطلقاً في مثل هذه التجارب غير المُضيئة التي ألمح إليها الشاعر، فهناك نماذج إنسانية كثيرة للمرأة محرِّضة للشعر وللرؤى في الجانب المضيء من الحياة، ولعلّ محيط (القرابة) أوضح مثال على ذلك؛ إذ لا يخلو من نماذج إنسانية للمرأة بالغة التأثير والإيحاء، وهذا يعني أن البواعث الشعرية في موضوع المرأة أوسع من أن تُحصر في عاطفة الغزل وحدها، فهناك المرأة - الأُمّ، والمرأة - الأخت، والمرأة - الزوجة، والمرأة - البنت، ووراء كلّ هذه النماذج وأمامها هناك في النهاية: المرأة - الإنسان.
والحقيقة أن عنْونة هذه الفقرة بالغزل هي مجرّد عنْونة إغوائية للقارئ، وإلاّ فإن المقصود هنا هو: مجمل التعبير الشعري عن المرأة بكلّ نماذجها وألوانها، والشاعر المتمكّن يستطيع التعبير عن هذه النماذج المتعدّدة للمرأة والمكتنِزة بالحالات الإنسانية المتنوِّعة: أشواقاً وأفراحاً وأتراحاً وانكسارات، وبالزخم الشعري المتدفّق نفسه الذي يمكن أن يُقدّمه التعبير الغزلي، وهناك شواهد شعرية كثيرة على هذا الحضور الشعري المتميّز في التجارب التي تصوّر مثل هذه الحالات الإنسانية للمرأة؛ لكني سأختار عامداً شاهداً من الشعر العربي القديم، وهي أبيات تنازَع الرواة في نسبتها إلى عدد من الشعراء الأمويين، ومنهم: مجنون ليلى، وابن الدُّمَينة، والصمَّة القُشَيري؛ على اختلاف بينهم أيضاً في رواية ألفاظها وأبياتها؛ لكنها تبقى شاهداً واضحاً على هذا التعبير الإنساني الرقراق عن المرأة، والإنصات «غير الغزلي» لدقّات قلبها الخافتة:
وما وجْدُ أعرابيةٍ قذفتْ بها
صُروفُ النوى من حيثُ لمْ تكُ ظَنَّتِ
تمنَّتْ أحاليبَ الرِّعاءِ وخيمةً
بِنجْدٍ فلمْ يُقدَرْ لها ما تمنَّتِ
إذا ذكرَتْ ماءَ العُذَيبِ وطِيبَه
وبَردَ حصاهُ آخر الليلِ حَنَّتِ
لها آهةٌ عند العَشيِّ وآهةٌ
سُحَيراً ولولا الآهتانِ لجُنَّتِ
بأعظمَ مِنّي لوعةً غيرَ أنني
أُجمْجِمُ أحشائي على ما أجنَّتِ
وكان الشاعر نفسه قد اقترب من مثل هذا التعبير الإنساني عن المرأة حين راح يرسم لوحة شعرية لصبيّة تلعب ملءَ صِباها في قصيدته: بين يديها من ديوانه: أوراد العشب النبيل؛ غير أنك قد تتمنى لو لم يصرّ في بداية القصيدة على انتهاج أسلوبه المعهود من الخطاب المباشر لها والحديث الغَزَلي إليها.
يبقى التساؤل المفتوح في النهاية: أيكون أحد الأسباب المهمة لضآلة المساحة التي تحتلّها المرأة في شعر الشاعر هو موقف نفسي مبدئيّ ذو بُعدٍ « تطهُّري « من المرأة ومن الطبيعة الإغوائية لها في بعض نماذجها ؟.. لعلنا نستذكر في هذا السياق تلك اللعنة الشاملة للنساء التي قذفها الشاعر في لحظة غضب في قصيدته: اللعنة المفصّلة من ديوانه الأخير:
«ألعنُها وألعنُ المذيعَ والفضاءَ والنساءَ والحجَرْ»
ولا ريبَ في أنّ الشاعر يملك من مُسوِّغات الخطاب الشعري وطبيعته التخييلية والانفعالية ومتطلّبات البناء الدرامي للقصيدة نفسها ما يجعل هذا السطر الشعري محتمِلاً لتأويلات كثيرة؛ ولهذا لن أتورط هنا في تعميم دلالة هذا السطر، ولن أُجيب عن التساؤل المفتوح الذي عرضتُه قبله، وإنما سأُبقيه كما هو: تساؤلاً مفتوحاً قابلاً للتأييد والنقض؛ على الأقل فيما ستحمله لنا الأيام القادمة - بإذن الله - من قصائد جديدة للشاعر قد تكشف بصورة أوضح عن هذه المنطقة الرمادية من مناطقه الشعرية.
6 إنفلونزا الحداثة والأجواء المُعْدية
1 - 6 إضاءة:
وسِوى الرومِ خلف ظهرك رُومٌ
فعلى أي جانبيك تميلُ؟!
أبو الطيّب المتنبي
2 - 6 تنوير:
«لماذا يجرّون ناصيةَ الشعر
للنقطة المعتِمهْ؟
لماذا يريدون للقلب ألاّ يحنَّ
وللروح ألاَّ تئنَّ
وللرأس أن يقبل الصفعةَ المؤلمهْ ؟»
حروف من لغة الشمس - 6
3 - 6 بيان:
في ستين سنة فقط صنعت الحداثة المعاصرة بالشعر العربي ما لم تصنعه أي حركة تجديدية قبلها على امتداد تاريخنا المكتوب؛ منذ ظهور مذهب البديع قبل ألف وثلاثمائة سنة على أيدي الشعراء المولَّدين في مطلع العصر العباسي، وحتى حركة شعراء المهجَر ومدرسة أبولّو الشعرية. مع الحداثة كان التغيير عاصفاً وجذرياً وموغِلاً في القطيعة مع ما قبله. ومثل أي تغيير كان يحمل في طواياه الغثّ والسمين؛ غير أن أغثّ ما في غثيثه هو تلك الحرب النفسية المتواصلة التي أصبحتْ تُمارَس على كلّ مَن لم ينضوِ بكُلّيته إليه؛ إذ أصبح يُنظَر إليه وكأنه يعيش خارج العصر.
وشيئاً فشيئاً تأثّر معظم الشعراء العرب المعاصرين بهذه الموجة الشعرية الكاسحة؛ على اختلافٍ بينهم في مقدار التأثّر: شمولاً وعمقاً. وتمخّضت هذه الموجة في آخر المطاف عن مشهد بالغ الغرابة، فقد ألمّ بهذه الحركة الشعرية الجديدة العيب نفسه الذي وصمتْ به الحركات الشعرية السابقة لها، وهو الوقوع في التكرار والتقليد والتقارب الشديد في إنتاج الشعراء المنتمين إليها الذين أصبح الكثير منهم مجرّد نُسَخ متماثلة من أشباه الشعراء تجمعهم سِمات محدّدة ومشتركة، وأهمها: الإيغال في الإبهام والغموض، وتجنّب التعبير الصريح عن العواطف الذاتية أو الهموم العامّة المشتركة، وتطلّب الغرابة والإدهاش في الصورة وفي طريقة تركيب الجملة الشعرية، والتخفّف من المعايير الشعرية المألوفة. إضافة إلى خصائص أخرى أكثر نُخبيةً وتجذّراً في التغيير لا تنطبق إلاّ على أقطاب الحداثة من الشعراء المشهورين.
فكرة: موت المعنى كانت من أكثر أفكار الحداثة ثوريةً وتأثيراً في مسيرة الشعر العربي المعاصر، لم يعد الشاعر مطالَباً بأن يكون مفهوماً حتى من النخبة، بل وللمفارقة أصبح مطالَباً بعكس ذلك، ويكفي أن يكون الشاعر جماهيرياً؛ كنزار قباني مثلاً حتى يُنظَر إليه نظرة مستخِفّة، وعِوَضاً عن توصيل المعنى: أي معنى إلى المتلقّي أصبح الشاعر الحداثي مشغولاً بالتغزّل الصوفي باللغة والحوار الذاتي المغلَق معها.
في خاتمة المطاف وصلت الحداثة إلى ما يمكن أن يُسمَّى موت الآخر، والآخر المقصود هنا هو المتلقّي الذي يبحث في الشعر عن فكرة كُلّية مُلهِمة أو عاطفة إنسانية مؤثِّرة. ما النتيجة الواقعية التي اصطدمنا بها في النهاية ؟ لقد أصبحنا نرى مشاركين أكثر على مسرح الشعر، وجمهوراً أقلّ على مقاعده.
في أدبنا العربي كانت هناك محاولات سابقة لتحويل الأدب إلى تغزّل مغلق مع اللغة بعيدٍ عن الحياة والأشواق الإنسانية المشتركة، ولعلّ من أبرزها: التيار البديعي المثقَل بالزخارف اللفظية الذي اكتسح النثر العربي القديم منذ القرن الرابع الهجري وحتى مطلع العصر الحديث، ولعلنا نتذكّر هنا الحريري، والقاضي الفاضل، والعماد الأصفهاني، بل حتى أبا العلاء المعري الذي لم يستطع أن ينجو بأسلوبه من التأثّر بالقيود اللفظية لهذا التيار المسيطر.
وفي العصر الحديث يكفي أن تعود إلى ثلاثية الرافعي النثرية: رسائل الأحزان، وحديث القمر، والسحاب الأحمر حتى تصادف مثالاً آخر على هذا التغزّل الإنشائي الفارغ باللغة: صُوَراً وكلمات، وحين تنتهي من قراءة أحد هذه المؤلَّفات قد تسأل نفسك جاهداً: ما الجديد الذي أضافه هذا الكتاب إلى نظرتي للحياة أو للذات أو للآخرين؛ سوى الإدهاش الفني المؤقّت من خلال التلاعب المستمر بالكلمات والصوَر ؟ هذا هو ما تشعر به أيضاً حين تقرأ لكثير من شعراء الحداثة المعاصرين، هناك بلا ريب إدهاش فني ممتع على مستوى التركيب والصورة، لكنْ ماذا بعد هذا الإدهاش المؤقّت ؟ هل يبقى في روحك بعد القراءة أي أثر عميق لرؤيةٍ شعرية متكاملة للذات والعالم، أو موقفٍ إنساني خاصّ من الوجود ؟ هل ينغرس في ذاتك شعور موحّد ومتناغم بجمالية التلقّي الكلّي للرؤية الشعرية الكامنة في النص؟
التعميم، والرغبة في الإقصاء، وإنكار الجماليات الفنية في شعر الحداثة: هذه هي الأدواء الثلاثة التي كان الكلام السابق حذِراً من الوقوع فيها، فالحديث كان عن كثير من شعراء الحداثة، وليس عن جميعهم. والتملْمل الذي تشي به السطور السابقة ليس من مجرّد وجود هذا التيار الفني في الشعر المعاصر، وإنما من اكتساحه الواسع للساحة الشعرية الحديثة. والإشارة إلى ضبابية الرؤية الكلّية للذات والعالم في كثير من التجارب الشعرية الحداثية لا تعني إنكار ما تنطوي عليه هذه التجارب من جماليات فنية على مستوى التركيب والصورة، وإنما تعني أن هذه الجماليات الشكلية والتقنيات التعبيرية لا تكفي وحدها لتكوين الأدب الإنساني العظيم.
أنْ يتوحّش الشعر فتكثر تقنياته الفنية، وتنحسر أبعاده الإنسانية: عاطفةً وموقفاً ورؤية، فلا تسأل عندئذ عن غربة الروح وانكفاء الذات. أمّا أن يتحوّل الشعر في نماذج أخرى شائعة إلى ألغاز مبهمَة وقطيعة شاملة مع كلّ ما سبقه من بناء، فهذا هو العبث بعينه. لعلّ هذا كلَّه هو ما جعل شاعرنا هنا يسجّل موقفاً مستقلاً من الحداثة الشعرية المعاصرة منذ ديوانه الثاني: حروف من لغة الشمس في قصيدته: وقتٌ للسؤال، وفيها يتساءل:
لماذا غدا الشعرُ وَلْوَلةَ النائحاتِ
وفأْفأةَ الطفل والتمْتمهْ؟
... لماذا نحرِّق ظِلَّ النخيلِ
وللفَيحِ مِن حولنا همْهمهْ؟
نُسيء الظنونَ بهذا النسيمِ
ونهتف للعصْف والدمْدمهْ
لماذا نسفْنا طريقَ الرجوعِ
وقُدّامَنا السبُل المظلِمهْ؟
على أنّ هذا الموقف المبكِّر للشاعر من شعر الحداثة لم يُجنِّبه التأثّر مع مرور السنين وتراكم القراءات ببعض سِمات هذه الموجة الشعرية الحديثة، وهو التأثّر الذي ظلّ في مجمله متّجهاً إلى الأسلوب؛ دون أن يُخلْخل جوهر الرؤية الشعرية التي ينطلق منها الشاعر، وقد حفل ديوانه الأخير بمظاهر أسلوبية متنوعة شائعة الاستعمال في شعر الحداثة، ومِن أهمّها ما يأتي:
1 - تنثير الشعر: والمقصود بهذا المظهر تضمين الشعر بعض التراكيب الأسلوبية التي تستعمَل عادةً في الكلام المنثور وفي الخطابات اليومية المعتادة بين الناس. وهو أمر شائع جداً في شعر الحداثة الذي يسعى دوماً إلى اقتناص كلّ ما يدهش القارئ ويصادم مألوفه، ومن شواهد هذه الظاهرة في الديوان:
(عفوَك يا قارئيَ الأغرّْ.. امحُ (انكسَرْ).. واكتبْ بديلاً... هل أقترحُ الآنَ الرأيَ... وتُكتَب ملحوظةٌ في حواشي الخبَرْ... فتزرعُ لا لفظَ أجمل من هذه تزرعُ الظلماتِ... ليست من نمَط الأعينِ هذا ما يبدو... سأنساكَ قرّرتُ هذا المصيرَ).
2 - تعدّد الأصوات والمشاهد داخل القصيدة: وهو شاهد آخر على تحطيم الشعر المعاصر للأسوار الفاصلة بينه وبين النثر، فتعدّد الأصوات والمشاهد داخل العمل الأدبي كان خصيصة من خصائص النثر الفني؛ ولا سيّما في فنّي القصة والمسرحية. ويقابل هذه الظاهرة الشعرية ظاهرة قصصية مضادّة، وهي ظاهرة اللا رواية في الأعمال القصصية التي تقترب كثيراً في لغتها وبنائها من طبيعة الشعر، وكلتا الظاهرتين صدى للدعوة المعاصرة إلى تحطيم الحواجز بين الفنون والترويج للنصوص العابرة للأنواع. ومن شواهد هذه الظاهرة في الديوان قصيدة: تعليلٌ واقعيّ للصمت العربي، إذ تتقاسم القصيدةَ أربعةُ أصوات داخلها، وهي: صوت المؤبّن: ( يقولُ المؤبّنُ:. ..)، وصوت الزمان: (يقولُ الزمانُ:...)، وصوت الرواة: (يقولُ الرواةُ:...)، وصوت الذات: (دعوني أُدنْدِنْ...).
ومن شواهد هذه الظاهرة أيضاً قصيدة: وجهان في القضية؛ إذ تنقسم القصيدة إلى قسمين أو وجهين: الوجه الأول: وهو الوجه المستنِد إلى عزّته وكرامته. والوجه الآخر: وهو الوجْه الذليل المستجيب لإغراءات المغتصبين. وكذلك قصيدة: قلق الأزمنة التي يتناوب على مسرحها ثلاثة أصوات: صوتٌ أول، وصوتٌ ثانٍ، ثم الخاتمة. فيما تتميّز قصيدة: لضجيجٍ أبيض بتعدّد مشاهدها، فقد توزّعت على ستة مشاهد تصوّر ضجيج المخاوف وتناميها وتمدّدها داخل الذات المرتعِبة.
تبقى الإشارة إلى أن تعدّد الأصوات والمشاهد في القصائد السابقة لا يعبّر في الغالب عن تعدّد حقيقي في الرؤى وزوايا النظر؛ إذ تتراكم هذه الأصوات والمشاهد لتعزيز رؤية واحدة أو موقف ذي اتجاه واحد، وهو ما يُضعف البُعد الدرامي القائم على تنمية الصراع في القصيدة.
3 - استثمار الإمكانات البصرية للكتابة داخل الصفحة: ومن ذلك: التوظيف الواسع للدلالات التي تقدّمها علامات الترقيم المتنوّعة، وكذلك الإكثار من الجمل الاعتراضية. والشاعر نفسه يقول في مستهَل هذا الديوان:
نِصف شعري جُمَلٌ معترِضهْ
وأنا ما بين قوسينِ أُغنّي
ومع أن الشاعر يقصد هنا معنى أبعد من مجرّد استعمال هذه التقنيات البصرية في شعره؛ ملمّحاً إلى القيود التي تضطره إلى إخفاء بعض البوح خلف غلالة من الدلالات الظاهرة؛ فإن واقع الحال في الديوان يشهد بهذا التوظيف الواسع لعلامات الترقيم والجمل الاعتراضية، والشاعر يُكثر إلى حدّ الإسراف من استعمال إحدى هذه العلامات الترقيمية، وهي: النُّقَط المتوالية الدالّة على الحذف، وهي أيضاً من أكثر علامات الترقيم شيوعاً في شعر الحداثة المعاصر الذي يسعى من خلال هذه الفجوات المتروكة عمداً في النص إلى أن يكون قابلاً لإعادة الكتابة من قِبَل القارئ. وشواهد توظيف هذه العلامة الترقيمية في الديوان من الكثرة بحيث يصعب إيرادها هنا؛ ولكنْ لا بأس في الاستشهاد بأحد الأمثلة عليها الذي يتمثّل في هذه القصيدة الموجَزة في الديوان، وعنوانها: معي:
حينما تندلع الأشواقُ لن أبقى وحيداً
إنّ في حضني قصيدهْ
وكثرة الشواهد تسري كذلك على الجمل الاعتراضية في الديوان، ويكفي هنا الاستشهاد بقوله في آخر قصيدة: تعليلٌ واقعي للصمت العربي:
لعلّي به أتلظّى ولاتَ اتّقادٍ عِنادا
4 - لوازم أسلوبية متنوّعة: وأعني بها بعض التعبيرات والصوَر التي يشيع استعمالها في شعر الحداثة، ومنها: صورة الصلْب التي يسرف شعراء الحداثة في تكرارها، وقد وردتْ في موضعين من الديوان؛ في فاتحته: (خارجاً من صوتيَ المصلوبِ في صمت الزوايا)، وفي خاتمته: (عائدٌ للصمتِ مصلوباً على بؤسِ الزوايا).
ومن اللوازم الأسلوبية التي تتردّد كثيراً في شعر الحداثة أيضاً: استعمال ضمير المتكلِّم فاعلاً ومفعولاً في التركيب نفسه؛ لتحقيق غايتين فيما يبدو وهما: إدهاش القارئ بغرابة التركيب، وللدلالة أيضاً على تشظّي الذات وانقسامها بين الفاعلية والمفعولية. ولم أصادف هذه اللازمة الحداثية إلاّ في موضع واحد من الديوان، وفيه يقول من قصيدة: لوجهٍ لا أعرفه: ( هل يفهمني غيري وأنا لا أعرفني ؟).
لنا أن نتساءل في النهاية: على ماذا يدلّ هذا التأثّر الأسلوبي الواسع بشعر الحداثة وتقنياتها الفنية عند هذا الشاعر المسكون بالجملة الشعرية التراثية حتى النخاع ؟ أهو انشطار الذات الشاعرة بين جذور الانتماء ومغريات المعاصرة ؟
للشاعر في هذا الديوان قصيدة تعبّر عن هذا الانشطار بصورة فاجعة، وهي قصيدة: المدار، ومع أن القصيدة تدور حول مستوى روحيّ آخر؛ فإنها تصلح تماماً لوصف هذا الانقسام الموجِع في الهُوية الشعرية للشاعر، يقول فيها:
خطوةً.. خطوةً
السكونُ انطوى والسبيلُ انفرجْ
مُثخَناً بالهرَجْ
وأنا صرتُ نصفينِ: نصفاً على المرتقَى
ثمِلاً بالحنين ونصفاً هناك ارتمى
سادراً بالهوى
عند أولى الدرَجْ
هذا هو عبد الله الرشيد: شاعر النغم التراثي الأنيق، وشاعر الحداثة المُواكِبة، فهو نصفان متواجهان، وإنْ شئتَ: نغمتان إبداعيتان لا تنفكّان عن الصراع الوجودي الخلاّق.