تنازع الواحد منا قوتان داخليتان كل منهما تجذبه لها، وقد تختلط الأوراق في لحظة ضعف إنسانية غريبة فلا تدري النفس البشرية أيهما تصدق ومع من تكون!!، ليس هذا فحسب بل إن لك قوة جنود وشهود يملكون من الحجج والوسائل الظاهرة والباطنة ما يجعلك تظلم نفسك أحياناً كثيرة، ولو أعاد الواحد منا شريط حياته لتذكر كم هي المواقف التي انتصر فيها لذاته مع أن الأجدى كان الانتصار عليها لا لها، والعيب الاجتماعي!!، وكيف تعتذر لنكرة من الناس وأنت ابن جلا وطلاع الثنايا!!، وماذا سيقول عنك الآخرون حين يعرفون أنك من بادر بالاعتذار، وماذا عساك أن تقول حين يقال عن تصرفك هذا أنه ضعف وخور وجبن وانهزامية!!، والمرأة أقل من أن تعتذر لها!!، والموقف لا يستحق منك كل هذا الضجيج!!، والأطفال لا يعرفون للخطأ عنواناً ولا يفهمون الحياة كما هي على الحقيقية!!، سلسلة طويلة من الحيل النفسية التي تجعلنا أسار ذواتنا التي بين الحنايا ومصفدي أهوائنا ورغباتنا التي لا تعرف حدوداً ولا تعترف بضوابط وصرعا شهواتنا ونزواتنا التي هي نزوات مراهقين مهما كبرت أعمارنا!!، ليس هذا فقط الصراع الداخلي بين حرفي الجر «اللام وعلى» وإنما ما ورد أعلاه مجرد مثال، إذ أننا كثيراً ما نكون في خندق المنتصرين للذات مهما كان الثمن، خذ مثلاً الحوارات التلفزيونية العربية، صدقوني كل يمارس الإقصاء انتصاراً للذات وأتحدى أن هذه الحوارات غيرت قناعة راسخة عند أحد المحاورين الذي جاء وهو مصفد بأغلال فكرته حتى النخاع فضلاً عن الأتباع والغوغاء.
المهم أن رمضان فضلاً عن كونه عبادة لله هو بصدق دورة تدريبية في كيفية إلجام النفس وضبط إيقاعها وكسر رغباتها وقطع شهواتها والتغلب على روتينها المعهود وهو يكشف لنا:
•كم نحن أغباء حين نعتقد أننا لا نستطيع تغيير عاداتنا السلبية والانتقال إلى المعسكر الإيجابي، وكم هي كلمة «المستحيل» كذبة كبيرة وغطاء ثقيل على عقولنا.
• كم نحن مخدوعين بحيل نفسية واهية نعتقد أنها قناعات راسخة، كشف لنا هذا الشهر الكريم أنها مجرد أوراق توت سريعاً ما تتطاير من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا ومن تحتنا.
• كم نحن ضعفاء أمام ذواتنا حتى أننا ظلمنا أنفسنا فضلاً عن ظلم غيرنا.
خذ مثال وجرب وأنت الحكم.. حاول أن تنتصر في هذا الشهر المبارك على حب ذاتك للمال، أكثر من صدقة التطوع ودرب نفسك على العطاء الإرادي، فضلاً عن أداء الزكاة الواجبة شرعا، واكتشف أنت الأثر النفسي قبل المادي الملموس، انتصر على ذاتك في حبك لولدك، فهو قد يكون فتنة لك وأنت لا تعلم، جاهد نفسك في المبادرة للطاعات، في حفظ لسانك، في إدارة وقتك، في خصوماتك ومنازلاتك،... تذكر أن الله ختم آية الصيام بقوله سبحانه «لعلكم تتقون» والانتصار على الذات في صوره المختلفة أثر من آثار التقوى العديدة.
طبعاً الانتصار على الذات يحتاج إلى تدريب طويل وعلاج سلوكي متكرر ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن طلب منه الوصية لا تغضب وكرر ذلك مراراً.. لأن القدرة على الانتصار لن تتحقق لك إلا بعد طول مران وتكرار ورمضان هو الباب المشرع أمامنا لتدريب ذواتنا على الانتصار عليها لا لها وأتمنى أن أكون من طليعة من ينتصر على ذاته في دروب الحياة المختلفة وإلى لقاء والسلام.