قال عمرو بن العاص رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها فوقف في قلب عسكره فجعل يلحظ ميمنته فيرى فيها الخلل فيُبدر إليه من يسده ثم يفعل ذلك بميسرته فتغنيه اللحظة على الإشارة، فدخله زهو مما رأى فقال:
يا ابن العاص كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟
فقلت: والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحدا تأتي له من طاعة رعيته ما تأتي لك من هؤلاء.
فقال: أفتدري متى يفسد هذا وفي كم ينتقض جميعه؟.
قلت: لا.
قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت التعجب. قال: إي والله وفي بعض يوم.
قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟.
قال: إذا كُذِبوا في الوعد والوعيد وأُعطوا على الهوى لا على الغناء فسد جميع ما ترى. وأعتقد بتجرد أن مقولة معاوية- رضي الله عنه- قد تحققت بحذافيرها في حق بعض الحكومات العربية، وأنها تبرر لنا بجلاء مانراه اليوم من تدهور وانفصام في العلاقات بين بعض الأنظمة العربية وشعوبها. ولقد قيل:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء
نصيب ولا حظّ تمنى زوالها
إن بعض الأنظمة العربية قد حظيت بقدر من العاطفة من لدن شعوبها نتيجة للكثير من الوعود الكبيرة الخلاّبة، فالجميع يعلم أن العربي كثيرا ماتحكمه العواطف في تصرفاته وتستبد به في أحكامه وقراراته، بل يصل به الحال أحيانا إلى الانسياق وراءها رغم الحسابات البينة، ناهيك عن الغامضة، ومن وجهة نظري فإن للعاطفة دورا كبيرا في انقياد شعوبنا العربية وراء أنظمتها الحاكمة وبأشكال متفاوتة. ويمكننا الإجمال بأنه كلما أحسن النظام العزف على أنغام العواطف الشعبية ومسايرتها وكسبهاكانت الأمور مستقرة ومحمودة في مجملها، وهنا يسهل انقياد الشعب وراء سياسات حكومته ويساندها، بل ويقدّم التضحيات من أجلها ويتجاهل الكثير من حساباته وقضاياه التي لها مساس مباشر بحياته واحتياجاته. لقد أدركت الأنظمة العربية، الجمهورية منها على وجه الخصوص، وبمستويات مختلفة، أهمية هذه الحقيقة وبناء على حساباتها الخاصة كأنظمة حكم، وداعبت شعوبها بما يضمن كسب عواطفها تحت ذرائع كثيرة تختلف من بلد إلى آخر.
فنرى أحدها يعزف على نغم الصمود والمقاومة وتحرير الأرض المحتلة، ويؤمل الجماهير بالمعركة القادمة مع العدو الذي يجب أن تُكبت لأجل صوتها الأصوات. ومنها الذي دغدغها بالوحدة، وصور نفسه عراب هذه الوحدة وعميدها، ويمم بلوائها تجاه الغرب مرة وللشرق أخرى حتى تجاوز بأحلامه فيها معايير المنطق، ومنها الذي روّج للوحدة القطرية وحتميتها مع الشطر الآخر، حتى جعل فيها ومن أجلها حياة أو موت الجميع. وروج آخرون أنهم السدنة على قيم الديموقراطية والحراس الأمناء للوطن ضد التطرف والإرهاب. وجملة مايقال: إن هذه الأنظمة قد نعُمت وتمتعت بعواطف شعوبها، أو على الأقل من قبل شرائح كبيرة منها، والتي كانت الحسابات الى حد كبير مغيبة عنها. هذا في الوقت الذي كانت الانظمة تقدِّم حساباتها الخاصة على كل شيء حتى بلغت المأساة بهذه الشعوب ألايزيد قوام الفرد في معاشه اليومي على دولارين، وبالمحصلة فقد تخدّرت هذه الشعوب، أو لنقل صبرت وانقادت في انتظار هذه الوعود حتى ثبت لها بمرور الوقت زيف هذه الوعود او عدم المصداقية في تنفيذها. وهنا بلغ الإحباط لدى بعض الشعوب العربية ذروته، ومنذ أمد ليس باليسير، حتى وقع الانفصام بين الحاكم والمحكوم، وأصبح واقعا ملموسا إلى الحد الذي انقلبت عنده العاطفة الى نقمة.
لقد شكل هذا الأمد بنظري فترة من الزمن هي بمثابة فترة الحضانة للحراك الخفي والغليان المكبوت الذي وصل في بضع سنين إلى النقد المسموع والمعارضة المعلنة ثم انتقل إلى طور الانفجار الواقع الآن، وأعتقد وبقوة أن مأساة بعض هذه الأنظمة قد بدأت حين حقق ولو بشكل هش ماكان يداعب به عواطف الشعب ثم توقف عند هذا الحد، ووقع هذا في الوقت الذي اكتشف الشعب أن نتيجة تضحياته على أرض الواقع وبمنطق وقيم الحسابات لاتساوي شيئا مقابل هذه التضحيات، ولا تقدم تبريرا مقنعا لما يتمتع به النظام الحاكم والملتفون حوله من مزايا. هذا طبعا في الوقت الذي أهمل فيه النظام الحاكم تقديم الحد المقبول من إنجازات البنى التحتيه أو الإصلاحات السياسية والاقتصادية أو حتى رفع المستوى المعيشي للمواطن كحد أدنى وفي خط موازٍ لما كان يعد به. هذا هو الحال فيما يخص تلك الأنظمة التي حققت ولو بشكل هزيل جزءا مما كانت تعد به. أما في حال بعض فقد كانت المأساة أعمق، حين رأت هذه الشعوب أنها صبرت ولعقود وهي تطحن وتكبت وتنهب خيراتها، ثم انتهت بها القناعة المحضة أن حكامها لم يحققوا شيئا مما وعدوا به فكان الرد منها كارثيا على حكامها.
ولنا أن نقول: إن الأرض عند بعض لازالت محتلة، والعدو استطاع أكثر من مرة أن يصل إلى أقصى بقعة ويجوس خلال الديار وصمت النظام الحاكم وكأن شيئا لم يكن، في الوقت الذي تجسد في ذهن المواطن أن النظام لايمثل سوى معاني التسلط والكبت والفئوية والفساد. كما ان بعضا من هذه الشعوب قد أصمها العزف لها على وتر القومية والعروبة، بينما يفجعها الواقع من خلال الممارسات المناقضة والسياسات الشاذة التي تستهدف سلخها عن لحمتها الحتمية وربطها قسريا بقوى غريبة عن انتمائها العرقي والعقائدي، وفي تضاد واضح بين ما تؤمن به هذه الشعوب وحسابات حكّامها، هذا في الوقت الذي لم ير الشعب أي شكل من أشكال الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو توفير أساسيات العيش الكريم. بل على النقيض من ذلك حيث وصل السوء ببعض هذه الشعوب الى الحد الذي أصبح المغتربون من أبنائها لأسباب سياسية او معيشية يقاربون عدد الصامدين ضمن الحدود، هنا ترسخت قناعات المواطن البسيط في بعض البلدان العربية، والذي تستبد به عاطفته نحو لقمة عيشه وعائلته ويقدمها على كل عاطفة، بأن وضعه يتدهور بمرور الوقت وأنه في دوامة صمته يغوص نحو الهاوية ويسحق أكثر فأكثر، في سبيل تكريس مصالح الفئة الواحدة والعصبة الحاكمة والتوريث أو هواجسه بدون حتى مبرر يرتكز ولو جزئيا على ركيزة مقبولة كإرث تاريخي لعائلة مالكة.
وبذكر العائلة المالكة فهي في نظري دليل على عمق أثر العاطفة في الذهن العربي، وكون هذه العاطفة سببا في انقياد الشعب للنظام الحاكم أو عدمه، فلو أمعنا النظر في حال الدول العربية التي تنعم في وقتنا الراهن بالاستقرار السياسي، لوجدنا انها بلا استثناء هي تلك الدول الملكية القائمة على وجود هذه العاطفة من لدن الشعب تجاه الملك وبيت الحكم. فجل الأنظمة الجمهورية، من حيث المقدرة على ممارسة السلطة القمعية تجاه شعوبها، هي بلا مقارنة أقدر في العموم من الأنظمة الملكية، غير أن هذه القدرة القمعية لدى الأنظمة الجمهورية لم تُجدِها نفعا حين زالت العاطفة تجاهها وانفصمت عروة الانقياد لها، حيث زال بعضها حتى قبل ان نتهيأ ولو نفسيا لزواله، ونرى بعض الآخر في طريقه الحتمي للزوال. اما في حال الأنظمة الملكية فلا زالت تنعم بدفء العاطفة التي ترتكز بشكل كبير على مالها من ولاء في قلوب الرعية، أو على الأقل لدى الشريحة الكبرى منها. وللتدليل على وجهة نظري هذه فإن لنا ان ننظر الى مستوى الحراك في بعض الدول الملكية وكيف كان هادئا ومقبولا، وتجلى فيه أثر العاطفة تجاه الملك والقبول بتدخلاته، بل والمطالبة بها. لقد تأتي هذا من القناعة بأن الملك يمثل الملاذ الآمن بعد الله لكل من الرعية والحكومة، وارتكازا على عدم المساس بمبدأ الولاء له والقبول بشخصه وبقراراته.
وهنا لايفوتني أن اؤكد على أهمية محافظة الأنظمة الملكية وعوائل الحكم العربية، في سياساتها العامة والخاصة، وفي سلوك أفرادها وجماعتها، على أهمية نيل هذه العاطفة والمحافظة عليها ورعايتها بشكل مستمر، وبأساليب مبتكرة ومتجددة، وبتبادل أسباب النجاح فيما بينها، أواقتباسها إذا لزم الأمر. فلا بد دوما من إحاطة هذه العاطفة بالقدسية اللائقة بها لكونها تقوم في أصلها على عقيدة سليمة تجاه رأس الدولة ومناط ومُنعقَد البيعة الشرعية، هذا بطبيعة الحال يلزمه بشكل لامفر منه تقديم صون هذه العاطفة ومسبباتها على أي حسابات ضيقة قد تراها الحكومة عند وقوع التضاد مع هذه العاطفة، أو قد تنال منها أو تصيبها بالبرود أوالفتور، وفي ذات السياق وللإنصاف فإن الانظمة الجمهورية في البلدان العربية الأخرى ليست شرا كلها ولسنا باليائسين منها، ونؤمن بأنها قد قدمت لشعوبها ما قدمت، ولكن عليها حتى يجتمع لها الخير كله، ان تتلمّس أسرار تغذية وصيانة العاطفة بين النظام وشعبه، وخاصة فيما يتعلق بجوانب الرحمة والحلم والرفق وصون كرامة المواطن ومعاملته بلين لايطغي اللئيم وحزم لايهين الكريم.
وفي الختام فلابد لي من التأكيد على أن كل عربي ومسلم وصديق يتابع الشأن العربي هذه الأيام يتمنى من الأعماق استقرار الوضع السياسي في كل بلد بلا استثناء. فالاستقرار السياسي هو عماد النماء والازدهار والتقدم على كل الصُّعد، وأي خلل فيه سيكون مدعاة لبدء مسلسل من التداعيات الكثيرة التي من حتمياتها الوصول إلى تدخل القوى الأجنبية تحت ذرائع تبتدئ غالبا لكيلا تنتهي، وهذه الامنيات التي في صدورنا ونحن نراقب هذا الحراك العربي هي من صميم العاطفة الجياشة تجاه كل الإخوة والأشقاء ومن مبدأ «أحب لأخيك ما تحب لنفسك».
(*)دكتوراه في العلاقات الدولية - رئيس مركز الدراسات والبحوث بكلية الملك خالد العسكرية.
mzmzbraidan@gmail.com