من قلب المدن السورية هناك أهزوجة مزجت بادية الشام مع حاضرتها، تشم منها رائحة الموت وصهيل الثأر وملح البارود، تقول هذه الأهزوجة التي تعيدها على مسامعنا معظم المحطات والتلفزة العربية: «يا حماه حنا معك إلى الموت». بهذه الصيغة أو تعديل في عباراتها لكن لحنها وإيقاعها موحّد، رددتها حناجر المتظاهرين في أكثر من عاصمة عربية، والرتم ينتمي في تأصيله لأغاني الصحراء، لرجال القوافل والهجانة أصحاب العيس والرجال المغامرين (الفدوة)، أشبه بالهجيني الذي يلتصق بقوافل العقيلات التي تسري في ظلام الليل الحالك، لتطوي الجبال والرمال والهضاب تبحث عن غايتها، وهي أشبه بأصوات المحاربين على ظهور الجمال والنوق مدججين بالأسلحة والغايات. من الذي أوقظ فيهم صرخات الحرب.. من أشعل النار في صدور الناس في الداخل السوري وجعلهم يخرجون إلى الشوارع بصيحات الماضي الغابرة، وبعذابات البادية وذاكرة الاستعمار ورغبة التحرر؟، لم تكن المواجهة في سورية فقط ما بين واحات أهل البادية وبين الحكومة السورية التي اختارت حكم البلاد بالنار والحديد والسلاح، بل كانت المواجهة مفتوحة مع أهل الريف وكروم العنب والتفاح وبيارات البرتقال ومزارع التين والزيتون، مواجهة مفتوحة مع أهل النواعير وطواحين المياه على مياه الفرات والعاصي وبردى، ومواجهه مع مدن السواحل ومرافئ الفينيقيين والكنعانيين والأموريين والآراميين وتاريخ بني أمية العطر، ومواجهه مع أهل الجبال والهضاب والسهول، مع أهل دمشق وحمص واللاذقية وحماه، مواجهة حتى مع الشجر والحجر. الشعب السوري قال تغيير النظام، بعد أن سالت الدماء الشامية في طرقات وأزقة وحارات المدن الأموية القديمة. سورية ترغب أن تغيّر الوجوه الضاغطة كما حدث في تونس ومصر وليبيا... سورية الآن هي دولة المواجهة بعد حرب 67م، وهى جبهة الصمود والتصدي بعد معاهد كامب ديفيد 77م، وهي سورية الممانعة بعد 2006م، الآن هي سورية الحقيقية التي ولدت من رحم الدكتاتورية التي عزلت شعبها وجعلته عاجزاً عن التواصل مع العالم بحجة أنها دولة المواجهة، وجبهة الصمود والتصدي، ودول الممانعة ضد إسرائيل وهي لم تطلق رصاصة واحدة منذ حرب 73م، إنما أطلقت حقدها ورصاصها على شعبها الذي طالب في البدء بالإصلاحات الإدارية وليست السياسية، والانتقال من الدولة البوليسية إلى دولة المؤسسات والعودة إلى الحياة المدينة التي لم تعرفه في تاريخها المعاصر، وبدلاً من تحقيقرغبة شعبها، بادرته بالقتل والدم واستباحة القرى والمدن. ولكن كل يوم يمر على سورية هو فجر جديد لأهل الشام الذين غيّبوا وعزلوا عن العالم لحوالي (40) سنة.