لكل وطن من أوطان أمّتنا؛ عربية وإسلامية، مكانة في نفس كاتب هذه السطور ومنزلة في وجدانه، وللشام بالذات - بمفهومها الجغرافي الواسع - مودة راسخة في سويداء فؤاده. وكانت تلك البلاد، التي دعا لها النبي، صلى الله عليه وسلم، بالبركة، إلى وقت ليس ببعيد، مقصداً لمن ثقلت عليه وطأة الحياة من سكان وسط الجزيرة العربية، وقبلة لمن عضه الدهر بنابه، لذلك كان يردد المثل الشعبي القائل: «الشام شامك إلى منّ الدهر ضامك».
وكان مما عهده جيل هذا الكاتب كون بلاد الشام، التي مركزها الدولة السورية في العصر الحديث، قلباً ينبض بالعروبة من أوضح سماته - إضافة إلى الوهج القومي - احترامه للغة أمتنا العربية. ومن مظاهر هذا الاحترام استعمال هذه اللغة وحدها لغة تدريس في جميع مراحل التعليم ولمختلف فروع المعرفة، على أن هذا الاحترام ليس غريب الحدوث في ربوع رأى النور عليها تعريب الدواوين، وسك العملة بالعربية قبل أربعة عشر قرناً، وذلك في ظل الدولة الأموية، التي كان اتساع رقعتها منقطع النظير، والتي كان لها في عهد الوليد بن عبدالملك نهضة عمرانية حضارية عظيمة.
وكنت قد حاولت التعبير عن مشاعري تجاه بلاد الشام عندما زرتها ضمن وفد من جامعات وطننا العزيز قبل خمسة عشر عاماً، وذلك في قصيدة مستهلها:
في مُهجتي لربوع الشامِ تَحنانُ
صَانت حُميَّاه أزمانُ وأزمانُ
وأمطرته من التاريخ غاديةٌ
فاشتدّ أصلاً وماست منه أغصانُ
أتيتُ أحملهُ حرفاً تسطرهُ
مشاعرٌ وأحاسيسٌ ووجِدانُ
إن لم يَرُق لهواةِ الشعر قافية
أو نًدّ في سبكهِ لحنٌ وأوزانُ
فللهوى في عيون العاشقين رؤىً
هي البيانُ إذا ما عز تبيانُ
وجئت يحملني عبر المدى قبسٌ
معطرٌ بالشذا الفوّاح فتّانُ
على جناحين ميمونين حفّهما
من مهبط الوحي والتنزيل إيمانُ
ومن عشيّات نجد مستطابُ صبا
ريّاه شيحٌ وقيصومٌ وريحانُ
أتيتُ من وطني شوقاً إلى وطني
وأرضُ يعربَ لي دورٌ وأوطانُ
عشقتُ وحدتها منذ الصبا ورست
لها بقلبي أساساتٌ وأركانُ
وعشتُ والدربُ تاريخٌ صحائفهُ
عزٌ وأسطرهُ للمجدِ تيجانُ
يفوحُ من سيرة الهادي وشرعتهُ
عطراً نسائمهُ عدل وإحسانُ
أقامها دولةً عزّت بدعوتها
أن لا يذل لغير الله إنسانُ
والناسُ في ظلها الحاني سواسية
لا شيء إلا التقى للفضل ميزانُ
ومن تلك القصيدة مخاطباً دمشق:
دمشقُ يا ألقَ التاريخ هَـأنذا
قَدِمتُ إذ لوّحت لي منك أردانُ
قدمتُ ألثمُ مجداً شادهُ نُجبٌ
بهم تشرّف مروانٌ وسفيانُ
وأجتلي فيلقاً يمضي فتتبعهُ
فيالقٌ شاقها للنصر ميدانُ
أنتِ الحضارةُ إشعاعاً ومنطلقاً
وأنتِ منبتُ أمجاد وبستانُ
قد قال فيك أميرُ الشعر قولتهُ
وفي حماك على ما قال برهانُ
«لولا دمشقُ لما كانت طليلطةٌ
ولا زهت ببني العباس بغدانُ»
وأنتِ يا قلعةَ الأمجاد أغنيةٌ
في ميسلون لها وقعٌ وألحانُ
دمُ الشهيد رواها نخوةٌ وَفِداً
والتربُ تفديه أرواحٌ وأبدانُ
كم هي شديدة الثقل وطأة الألم على نفس من كانت تلك هي مشاعره تجاه قلب بلاد الشام.. سورية، التي قرأ تاريخها المجيد إشعاع حضارة عربية أصيلة، ومنطلق دولة إسلامية امتدت رقعتها إلى الصين شرقاً وإلى بلاد الغال في فرنسا غرباً.
وعرفها، في العصر الحديث، قلباً عروبياً كان من عظماء رجاله وأفذاذهم الكواكبي والعَظْمة والقسام. وعرفها، أيضاً وطناً معتزاً كلّ الاعتزاز باللغة العربية، لغة أمتنا الجميلة الخالدة، التي نزل بها القرآن الكريم من عند رب العالمين بلسان عربي مبين متمسكاً بها في مجال التدريس غاية التمسك.
يا للألم شدّةَ وطأةٍ وفداحةَ وجعٍ والمرء يرى البطش الأعمى الفظيع يُرتكبُ فوق ربوع ذلك الوطن دون مراعاة لحقّ الإنسان وكرامته؛ ذكراً وأنثى، شيخاً وطفلاً، ويشاهد التهديم جنونياً لا يوفّر في غيّه حتى بيوت الله. وكم هو مؤلم ومفجع أن يرى المرء منارة أحد المساجد في دير الزور تتحطم وتهوي بنيران جيش يفترض أن يكون حامي العباد والبلاد. وكم هو مثير للاشمئزاز أن يرى المرء أفراداً من ذلك الجيش فوق العربات العسكرية يرفعون أصابعهم علامة للنصر بعد أن ارتكبوا ما ارتكبوا من تدمير إحدى المدن السورية، وكأنهم قد انتصروا على أعداء أمتنا من الصهاينة في فلسطين وفي الجولان، أو المرتفعات السورية، التي ترزح تحت نير احتلال أولئك الأعداء منذ عام 1967م.
إلى أين تسير هذه الأمة المبتلاة؟ ويلي على سورية ذات الحضارة المجيدة، وويلي من مصيبتها الراهنة المأساوية. ولا أملك إلا أن أقول: ألا إلى الله تصيرُ الأمور.