مرة أخرى.. تفرض ظاهرة الواسطة نفسها (ضيفة) ثقيلة على الأذهان وأسنة الأقلام.. بعد أن باتت (بوصلة) نفسيةً واجتماعية يستهدي بها الكثير من الناس عبر مسارات حياتهم، بسبب حيناً وبدونه معظم الأحيان! وأود التأكيد هنا أنني لست (عدواً) للواسطة السوية التي تجلب الخير لمستحق أو تدرأ الضر عنه، لكنني أستنكر بالقدر نفسه (واسطة) تناصر القوي ضد الضعيف (فتزين) بذلك حراماً أو (تشوّه) حلالاً!
وبمعنى آخر، الشفاعة الحسنة مطلوبة ومرغوبة بشرط ألا (تنتصر) لظالم، أو (تهزم) مظلوماً، لكن حين تختلط أوراقها وتتفاقم ممارستها كما وكيف، وتتعدد سبلها التماساً من الناس للنفع الخاص، (يرتبك) المقصود بالشفاعة، فلا يعود المرء يميز بين شفاعة نقية القصد تستهدف جلب خير أو دفع أذى، وأخرى (مشبوهة) الوسيلة والغاية! وذلك موقف لا يحسد عليه الشافع ولا المشفوع له ولا المقصود بالشفاعة!
***
* وما أشاهده اليوم وأسمع عنه وأقرأ هو أن فريقاً من الناس قد غزتهم (حمى) الواسطة عدوىً وتلبسهم تقليداً، لم تعد تجدي في صدها (مضادات) النظام ولا (أمصال) الحياء.. ولا (عقاقير) الخلق، وبدا وكأن الكل يخطب ودها ويحلم بوصلها، و(يحرق البخور) إكراماً لها!
تراود أحدهم الرغبة في تحقيق شأن من شؤون الدنيا، يقصد به نفسه أو سواه، وبدلاً من التعرف على القواعد والإجراءات والوسائل المنظمة للشان الذي يبغيه، يأبى هو أن يدخل البيوت من أبوابها.. ويؤثر على ذلك الدروب والمسالك والزوايا الخلفية بحثاً عن (وسيط) أو (شفيع) أو فاعل خير يختصر له (الدرب الطويل) في تقديره، وصولاً إلى غايته!
***
* وهناك من قد لا يهمه أن يعرف القواعد والإجراءات والشروط المنظمة للشأن الذي يبغيه.. بقدر ما يهمه أن يعرف (أحداً).. يفتح له باب جاه أو سلطة أو نفوذ ييسر له بلوغ شأنه.. دون جهد ولا عناءً ولا انتظارً!
***
* تقول له ناصحاً: لِم العناء بحثاً عن (شفيع) أو (وسيط) إذا كنت تستطيع بلوغ غايتك وأنت مرفوع القامة، موفور الكرامة.. وسلكت السبيل الذي يؤمه الناس.. بحثاً عن الغاية ذاتها، فيرد عليك متأففاً: بل لِم العناء وأرق الانتظار إذا كنت أملك (الوسيلة) لبلوغ ما أريد في ساعات، لا أيام عبر (وسيط) تربطني به صلة نفع أو جاه أو قربى!
وبعد..،
فإنني لم أرد بالعبارات السابقة (التهويل) بالقول إن (الواسطة) باتت (البديل) لكل بديل إذ لم يزل هناك الكثيرون ممن يؤثرون (السير مع الجماعة) بدلاً من الانفراد بدرب مستقل، في قضاء الحاجات!
وعلى صعيد آخر، تظل الواسطة هاجسا قلقا لدى كثيرين آخرين ممن لا يؤثرونها سبيلاً لتحقيق مآربهم لأنهم يشعرون، وهم كارهون بشيء من أذى حين يتجاوزهم أحد في (طابور) قضاء الحاجات بحثاً عن غاية هم لها قاصدون!
***
* ونحن مطالبون، مجتمعاً وأفراداً وإدارةً، أن ننأى عن (الواسطة) التي (تميز) بين الناس بدون حق ولا حجة! وأن نفرق بين واسطة تنشد البر، طمعاً في الثواب، وأخرى، لا بر فيها ولا ثواب!
***
* وإذا كانت الإجراءات أو القواعد المنظمة لهذه المصلحة أو تلك تعوق الأداء أو تستنزف من الزمن والجهد ما لا تسوغه الضرورة، أو إذا كانت هذه الإجراءات أو القواعد (تخترقها) مسامٌ تلج منها شفاعة الشافع بلا مبرر.. فلماذا لا تقوم هذه القواعد أو الإجراءات تقويماً يأتي بخير منها، وإذا كان المنفذون لها ممن يخشى منهم علة في الفهم أو الذمة أو التقدير، فلماذا لا يؤتى بخير منهم.. كي نحفظ للنظام هيبته، ولصاحب الحاجة كرامته، وللناس أجمعين ثقتهم والتزامهم (بجماعية) التطبيق!