يستطيع كل متابع أن يدرك أنّ الدولة السعودية في طورها الثالث أخذت بمقوّمات الدولة الحديثة بمفهومها السياسي والقانوني، ومن ثم فهي تملك السيادة السياسية والسيادة القانونية، والفرق بينهما واضح لدى المختصين في هذا المجال.
فمنذ توحيد هذا الكيان على يد الملك المؤسّس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيّب الله ثراه - وهذه الدولة تأخذ بمفهوم الدولة الحديثة وتبني لبنات قيامها وتأسيسها في ضوء ذلك، وتتابع أبناء الملك المؤسّس البررة من بعده على ذات النهج، وأعطى كلٌ منهم جهده وعطاءه بصدق وإخلاص في إعلاء هذا البناء وفق رؤية عصرية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، والواقع أنّ تلك الجهود التي بذلت في تشييد هذه الدولة وبنائها كانت وفق عمل مؤسّسي ورؤية واضحة، ومنطلقات راسخة فكانت بعيدة عن الارتجال أو التعجُّل، فهي تسير وفق برنامج واضح وإستراتيجية تستشرف المستقبل، فلم يكن ميلاد الأنظمة الأساسية (الدستورية) للمملكة وما قبلها وبعدها من أنظمة وتشريعات ولوائح وقرارات، يأتي لتلبية واقع مفروض أو إملاءات خارجية، بل هو مسار رسمه المؤسّس ونهض بأعبائه، ثم تتابع أبناؤه من بعده على إعلائه وترجمته لواقع معاش يسمو بالحاضر ويستشرف المستقبل.
هذه المقدمة أردت منها بيان أنّ الواقع الذي تعيشه المملكة من تطوّر وإعادة هيكلة لعدد من أنظمتها وخططها وبرامجها ومشاريعها، ليست منبت الصلة عمّا سبقها أو هي ردود أفعال للأحداث الطارئة، بل إنّ الإصلاحات التي أخذ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - على عاتقه النهوض بها ورعايتها والوقوف على تفاصيلها، تأتي امتداداً لذلك النهج المؤسّس والرؤية الثاقبة للحاضر والمستقبل.
ولعلّ مسارات الإصلاح التي نعيشها في هذا العصر الزاهر بقيادة الملك عبد الله، أصبحت لافتة للنظر، كونها جاءت وفق مسارات تلتقي في هدف واحد وإنْ تعدّدت، مما أعطاها صدى ظاهراً وأثراً بيّناً، وأصبحت تلامس الواقع بشكل محسوس حتى من الإنسان العادي فضلاً، عن النُّخب الفكرية والسياسية والثقافية، بل تجاوز ذلك إلى صدى عالمي يشيد بهذه الخطوات ويعلي من شأنها ويقيمها بكل إعجاب.
إنّ تلك المسارات الإصلاحية التي رسمها الملك المفدّى ونفّذها رجاله المخلصون من إخوانه وأبنائه وبقية أبناء الوطن المخلصين العاملين في دوائر صُنع القرار، كانت تستهدف قضايا مفصلية وحاسمة، بل يجمع الكثيرون على أنّ تلك المسارات الإصلاحية أضحت ضرورة لتحقيق الأمن والرفاه لمسيرة هذا الوطن وأبنائه الأوفياء، وأستطيع أن أتناول تلك المسارات الإصلاحية التي كانت تمثل الروية الثاقبة والبرنامج الإصلاحي الطموح للملك المفدّى وحكومته الرشيدة من خلال ما يلي:
1- التأكيد على أنّ هذه الدولة هي دولة مؤسسات من خلال إعمال المبادئ الدستورية التي تقوم عليها كل دول العالم كمبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ سمو الدستور، ومبدأ المحافظة على الحقوق والحريات، ومبدأ الشرعية، ومبدأ السيادة السياسية والقانونية، ومبدأ استقلال القضاء، وغيرها من المبادئ الدستورية التي تفي بمتطلّبات الدولة الحديثة وحفظ كيانها السياسي في الداخل والخارج.
2- سن وتشريع عدد من الأنظمة واللوائح والقرارات الهامة التي تأتي منسجمة مع ما ذُكر أعلاه، إضافة إلى إعادة تحديث عدد من الأنظمة واللوائح بما يتفق مع مستجدات العصر ويواكب تطوّر الحياة الإنسانية، ويعزّز دولة المؤسسات، ويفسح المجال للإفادة من الإرث الإنساني المشترك في مجالات الحياة وتوطينها في مجتمعنا بما يسهم في رقيه وتميزه.
3- صدور جملة من القرارات التي تستهدف المواطن البسيط وتحقق له الرفاه، وإعانته على الأخذ بأسباب الحياة الكريمة ومواجهة صعوبات الحياة، من خلال اتخاذ عدد من القرارات التي تحدّ من البطالة، عبر خطوات عملية تفسح المجال لزيادة فرص مجالات العمل الشريف، وزيادة عدد من البدلات والمقررات المالية لموظفي الدولة في القطاعين المدني والعسكري، ودعم مؤسسات الدولة الخدمية، وتحجيم مشكلات الإسكان من خلال حزمة من الخطط والبرامج والمشاريع والدعم السخي لها، وغيرها من القرارات التي عالجت ملفات بالغة الخطورة، وكانت ضرورية لإعادة الكثير من التوازنات داخل المجتمع السعودي ومسيرة بنائه.
4- العمل على المشاريع النوعية التي تلامس الاحتياج اليومي للمواطن، من خلال تنفيذ عدد من المدن الطبية والمستشفيات الصحية في جميع مناطق المملكة، وإعطاء المناطق الأقل وفرة في هذه الخدمات مزيداً من العناية والدعم، زيادة على التركيز على الاحتياجات ذات الطبيعة الخاصة كمستشفيات أمراض السرطان والأورام والسكر وأمراض القلب والفشل الكلوي وغيرها، فكانت براقة أمل جديد في الحد من معاناة الكثير من أبناء الوطن في تنقلهم من مناطقهم إلى مناطق أخرى للعلاج ومقاومة المرض.
5- من المشاريع النوعية التي تلامس حاجة المواطن، التوسع في تشييد الجامعات والكليات وفتح البرامج والتخصصات التي تلامس سوق العمل وتفتح آفاق المستقبل لسواعد هذا الوطن من أبنائه وبناته، للمشاركة في مسيرة التنمية، فما تعيشه المملكة من طفرة حقيقية في مجال التعليم العالي، من خلال المدن الجامعية ودعم البحوث والدراسات العلمية، ومن خلال الكراسي البحثية والمؤتمرات والمراكز العلمية والإنفاق بسخاء على ذلك، دليل على هذا التحول الاستراتيجي في مسيرة التنمية المستدامة، ولعل ما أشارت إليه «خطة التنمية التاسعة» للدولة يبرز أن الاستثمار في الإنسان والإنفاق على المجالات العلمية والبحثية هي المعادلة الحقيقة، التي أخذت بها الدولة نحو مجتمع المعرفة، ونحو مجالات وفضاءات واعدة بالعطاء؛ فالمجتمع الغربي وما يعيشه اليوم من نهضة صناعية وتقنية متقدمة هو من خلال تحقيقه لهذه المعادلة التي تعيش المملكة الآن غمارها بكل اقتدار، بفكر سديد ورؤية طموحة للمشروع الإصلاحي الذي يرعى خطواته الملك عبد الله بكل عزم وثبات.
لقد استطاعت المملكة العربية السعودية، أن تجعل الإنسان هو مرتكز ومحور التنمية، ونقطة انطلاق لمجالات الحياة والتنمية والازدهار لهذا الوطن، فكان من أهم مجالات الاستثمار في الإنسان (التعليم) والتعليم الجامعي والعالي - بشكل خاص -، فنجاحات الوطن في هذا المضمار هي نجاحات أشبه ما تكون بالمعجزة، فقد توافر للمملكة خلال مسيرتها القصيرة في عمر الدول والشعوب، ما لا يمكن أن يكون في قرون، وما كان هذا ليكون بعد توفيق الله تعالى إلا من خلال التخطيط السليم ورسم الاستراتيجيات والدعم السخي والإرادة الأكيدة من القيادة - حفظها الله -، ثم الرجال الأكفاء الذين يزخر بهم الوطن وما يملكونه من قدرات. إنّ النظرة الثاقبة لخادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - نحو التعليم العالي والبحث العلمي، ترمي إلى تعزيز أن الإنسان هو محور ومرتكز التنمية وهو المحرك لها، ولعل ما حملته «خطة التنمية التاسعة» التي أقرّها مجلس الوزراء يوم الاثنين الموافق30-10-1431هـ، تحمل ملامح ملحمة كبرى نحو تنمية شاملة، فقد رفعت المملكة إنفاقها التنموي بما يتجاوز 1.4 تريليون ريال، مما يشكّل زيادة بنحو 67.3 في المائة، إضافة إلى ما رُصد من إنفاق تنموي خلال خطة التنمية الثامنة، وتعكس هذه المؤشرات توجّه المملكة نحو مواصلة وتسريع مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، والارتقاء بمستوى معيشة المواطنين ونوعية حياتهم، وقد أشارت وثيقة خطة التنمية التاسعة (التي تستهدف الأعوام من 2010 م - إلى - 2014م)، إلى سعيها الشمولي في الإسهام في بناء حضارة إنسانية في إطار القيم الإسلامية السمحة والأخلاقية الرفيعة، وترسيخ أسس الدولة وهويتها وإرثها، العربي والإسلامي، والمحافظة على الأمن الوطني الشامل، وتعزيز الوحدة الوطنية ودعم مقوماتها، وضمان حقوق الإنسان، والمحافظة على الاستقرار الاجتماعي، وتعزيز رسالة الأسرة في المجتمع، وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة، وتستند هذه الخطة في صياغة توجّهاتها على الرؤية المستقبلية بعيدة المدى للمملكة.
6- من مسارات الإصلاح الواعدة التي حفل بها هذا العهد الميمون، التوظيف الأمثل للتقنية وشبكات الاتصال من خلال التسريع في التحول نحو الحكومة الإلكترونية وتحفيز الأجهزة الرسمية على سرعة ذلك، زيادة على اختيار القيادات الشابة من أبناء الوطن للمشاركة الجادة في مسيرة العطاء لهذا الوطن، والأخذ بأحدث نظريات الإدارة الحديثة والبعد عن البيروقراطية وسلبياتها، واستيعاب عدد كبير من أبناء الوطن في قطاعات الدولة المختلفة المدنية والعسكرية، وتثبيت المتعاقد معهم على وظائف مؤقتة، مما أسهم وبكل صدق في تعزيز الأمن والسِّلم الاجتماعي وإشاعة السكينة في المجتمع.
7- إحداث الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الفساد يأتي تتويجاً للإستراتيجية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله -، والتي تمثّل خطوة جادّة نحو إحداث تغيير حقيقي في المجتمع، وإيقاف صور الفساد التي لا يخلو منها أي مجتمع أو دولة، ولعل الاختيار الموفق لمعالي رئيس الهيئة الأستاذ: محمد بن عبد الله الشريف، أعطى دلالة واضحة على تبنّي هذا المشروع الإصلاحي، لما عُرف عن شخصية - معاليه - من خبرة ودارية، وسجلّه الحافل بالعطاء والنزاهة للوطن عبر محطات عمله المختلفة، كما حفل تنظيم الهيئة بمؤشرات تصب في الاتجاه نفسه من خلال تبنّي هذا المشروع الإصلاحي الطموح، واعتماد اختصاصات ومهام جوهرية، زيادة على التشكيل التنظيمي والإداري للهيئة، مما يعطيها الفرصة لتحقيق نجاحات واسعة، خاصة وأنّ احترافية النصوص القانونية التي خرج بها تنظيم الهيئة كان موفقاً ويعطي الهيئة مجالات طموحة في رسم إستراتيجية تستوعب جوانب القصور والخلل في الحاضر، وتحد من تدفّق تلك الجوانب المخلّة في المستقبل، ولعل من أهمها وأخطرها وهو ما أشار إليها تنظيم الهيئة، وهو ما يتعلق باقتراح تعديل الأنظمة واللوائح، والتي ربما وُجد بها ثغرات تعتبر مخارج لأرباب الفساد، مما يفسح المجال أمام الهيئة لاقتراح سرعة تعديلها.
إنّ هذه المسارات الإصلاحية الطموحة للملك عبد الله هي من أحدث تغيير حقيقي في المجتمع، بات ظاهراً للعيان ومحل إشادة من الجميع في الداخل والخارج، ولذلك كان من الأهمية بمكان أن تتضافر الجهود وتتفق الرؤى في سبيل إنجاح هذه المسيرة الإصلاحية الراشدة، حفاظاً على الوطن ومنجزاته ومكتسباته. والله من وراء القصد.
رئيس قسم القانون بجامعة المجمعة