يروي لي أحد أقاربي حواراً دار في مكالمة هاتفية خاطفة تلقاها من شخص مجهول يدعى «عجّاب» قبل فترة قصيرة، وكان حواراً بينهما كالتالي:
- ألو السلام عليكم.. هذا رقم الأستاذ محمد؟
- نعم تفضل.
- كيف حالك طال عمرك عساك طيب؟
- بخير ولله الحمد. من معي؟!
- معك (عجّاب). أبشرك طال عمرك أنا خريج قانون وتوني ماخذ رخصة مزاولة المحاماة.
- ما شاء الله مبروك الله يوفقك بس ما فهمت يا عجاّب وش المطلوب مني!
- لا أبد طال عمرك بس تعرف الأزمة الاقتصادية والناس مو لاقية تاكل والوضع المادي بيني وبينك تعبان شوي، عشان كذا أبيك طال عمرك تنزلي تهنئة على التخرج مرفقة بصورتي في إحدى الصحف الشهيرة عشان الناس والأصدقاء يشفونها ويفرحون بها وش قلت؟
- أنا يا ولدي مسافر الآن وأعتذر لأني ما عندي أي شيء أقدر أسويه لك والله يوفقك.
- لا ما في مشكلة أنتظرك لما ترجع وأملنا بالله ثم بك كبير ونشوفك على خير إن شاء الله، مع السلامة.
- مع السلامة!!.)
* وسط ذهول قريبنا الأستاذ محمد انتهت المكالمة بعد أن اعتقد أنه اعتذر من العجيب (عجّاب) بطريقة لطيفة ومؤدبة أحرجت عجّاب وقطعت آماله, ولكن أخينا في الله لم يتوقف عن الاتصال به حتى لحظة كتابة المقال بحثا ًعن فرصة الشهرة الوهمية المتمثلة في تهنئة في إحدى الصحف.
* ربما لاحظتم أن المحامي عجّاب كان يتشكى من الظروف المادية الصعبة التي لم تعطه دافعاً لكي يعمل وينتج ويبحث عن أفضل الفرص بل لمعت في رأسه فكرة اعتقد لوهلة أنها أقصر وأسرع طريق لعالم الشهرة والمال, فربما يقرأ أحد أصحاب مكاتب المحاماة الخبر ويرى صورة (مارلين مونرو) عفوا المحامي عجّاب -الذي يصر على نشر صورته - فيبحث عنه ويطلب توظيفه مع أني أستبعد أن تلك الفكرة طرأت على باله، فكل ما يبحث عنه هو التباهي أمام الأهل والأصدقاء ليس بشهادته ونجاحه بعد التعب والسهر ووضع العرق في مكانه الصحيح، بل بتهنئة كاذبة من رجل لا يعرفه وهو نفسه من طلب منه ذلك.
* هذه المكالمة رغم قصرها تحمل في طياتها مشكلة حقيقة تواجه مجتمعنا والتي أصبحت ظاهرة مقرفة أحياناً، هي ظاهرة نفاق التهاني والتعازي التي نعيشها ونمضغها بمرارة كل صباح في صفحات الصحف التي تعج بالغث والسمين منها، وتعطي انطباعا فورياً على أننا مجتمع يعيش ويقتات على المظاهر، فتلك التهاني والتعازي غالباً ما تكون موجهة إلى رجال الأعمال وأصحاب المراكز والمناصب العالية وإلى من يجلسون على كراسي وثيرة وساخنة، فتتسابق الشركات والمؤسسات والأفراد على تعزية ابنة خالة والدة أحد المسؤولين - والتي أطفأت قبل موتها الشمعة التاسعة والتسعين- ليس حزناً عليها ولا مواساة لمشاعره الرقيقة, بل لمصالح يعرفها الطرفان جيداً - وبينهما اتفاق ضمني بسيط يقول (نزّلي وانزّلك)- فلو كان أصحاب تلك الصفحات باهظة الثمن يهتمون كثيرا لمشاعر ذلك المسؤول ويخافون عليها، لوقفوا بجانبه في العزاء (هذا إن كان موجوداً أصلاً) بدلاً من تلك المانشيتات التي تمثل دعاية اجتماعية تلمع صورهم أمام النخب، ولو أن أحد الموظفين البسطاء في الشركة انقلبت سيارة عائلته بأكملها في حادث مرّوع وفقد على إثره أهله وخسر من كان يمده بالسعادة والحب والعزيمة لإكمال هذه الحياة الشاقة لما فكّر رئيسه في العمل إنزال عزّاء ولو بربع صفحة، ولماذا يفعل؟ هل هو مسؤول كبير أو رجل أعمال ثري لا سمح الله؟!
* في الحقيقة أنا لست ضد تلك التهاني والتعازي بالمطلق ولا أستطيع فرز وإخراج ما هو صادق منها وما هو منافق لكني أشم في الكثير منها رائحة كذب وتزلف نتنة تصيبني بالغثيان.
* للأسف أني لم أقرأ يوما مثل تلك التهاني والتعازي إلا في صحفنا العربية، مع العلم أن هناك ما هو أرقى وأجدى للاحتفاء بنشره وإعطائه مساحة واسعة كتلك.
* أخيراً إن تلك الظاهرة تبين تراجعا مخيفاً في مصداقية المجتمع أولا ً وتفاهته ثانياً.. فما بين هذه التهاني والتعازي الكاذبة التي فرغت من معنى ومحتوى التهنئة أو العزاء الحقيقي الذي يتسم بالصدق والبساطة والإنسانية بوقوف الإنسان بجانبه أخيه الإنسان في سرائه وضرائه، وليس بصفحات طويلة عريضة يصرف عليها مئات الآلاف لتكشف بقسوة نقصاً أصاب مجتمعنا وفضّل بضمير مطمئن ومرتاح المظاهر على القيم الإنسانية الراقية.. ألا تعتقدوا ذلك؟؟
نبض الضمير:
(دع الكاذب يقصّ عليك أكاذيبه حتى يقول الصدق)