أقطار الجزيرة العربية كلها، عدا اليمن وعمان، كانت على مر التاريخ المنقول والمدون مجرد صحاري مرادفة للفقر المقيم والارتحال المستديم خلف سحابة تمطر هنا أو هناك. حتى بعد أن اختارها الله لخاتمة رسالاته السماوية لم يستفد سكان الجزيرة الباقون فيها مادياً ومعيشياً بقدر ما استفاد الذين خرجوا منها فاتحين أو هربوا منها خلف الفاتحين. هؤلاء المهاجرون ومن تناسل من أصلابهم بعد ذلك سرعان ما شطبوا صحراء جزيرة العرب والمقيمين فيها من ذاكرتهم وتركوها لصوافر الريح ولافحات الهجير. لم تنقض سوى عقود قليلة من السنين ثم بدأ أولئك المهاجرون يتندرون ويتضاحكون على بداوة الصحراء وطبائع أهلها الفطرية وطرائقهم الفجة في التعامل المفتوح مع الحاجات البشرية دون كياسة ومجاملات أو لف ودوران. لم يكد يمر قرن واحد من استقرار الأمور في العراق والشام ومصر حتى لم يعد باقياً لبدو الصحراء في صدور المتنفذين من عرب الشمال سوى فضيلة الفصاحة والفحولة الشعرية فصاروا يستوردون حاجاتهم في المديح والهجاء والغزل من آن لآخر من معين الصحراء الشعري الذي لم ينضب عندما جف كل شيء سواه.
في عصورنا الجديدة انقلبت الأمور وصار الاستقرار الاقتصادي ومعدلات التنمية في صالح أهل الصحراء لأول مرة في التاريخ، بينما ساءت أحوال إخوانهم في الشمال والغرب لأسباب سياسية حزبية بحتة ليس منها الشح في خيرات الأرض أو تقلبات الطقس والمناخ. هذا الانقلاب المعيشي المفاجئ والذي ليس له سابقة في التاريخ الصحراوي أوجد ثلاث ظواهر:
1- هجرة معاكسة من الشمال والغرب إلى الصحراء، مع عدم الرضا عما آلت إليه الأمور لكونه بدا للمهاجرين في الاتجاه المعاكس ضد طبائع الأشياء.
2- انتشار صحراوي تجاري ودراسي وسياحي واستطلاعي في كل بلدان العالم، العربية منها وغير العربية.
3- التقى أحفاد الصحراويين وأحفاد المهاجرين لأول مرة وبشكل مباشر على كل بقاع الأرض وجهاً لوجه.
للأسف لم يحدث كما هو منطقي ومتوقع أن فرح الطرفان باللقاء بعد طول افتراق بقدر ما تأججت حساسيات غريزية جديدة. الصحراوي الذي كان منسياً في صحرائه داخلته علامات غرور ونزق صاحب النعمة واستعلائه في التعامل، وصاحب النعمة القديم الذين كان يتندر على فقر وسذاجة الصحراوي ظهرت عليه علامات الاستكثار وعدم الرضا عن هذا التبدل في الأوضاع والأدوار.
لا تستغرب لذلك إن وجدت بين الأطباء والباحثين والمؤرخين والفقهاء والنقاد من أبناء الشمال والغرب العربي من يتعجب ويستكثر على العقل الصحراوي قدرته على الاستيعاب والإبداع والتفوق في مجالات الحياة العلمية الحديثة. كــذلك سـوف ترى بالمعايشة أن أسوأ معاملة يلقاها الســائح والطالب والتاجر الصحراوي عند تواجــده في أيّ مكان خارج بلاده تكون من ابن عمه عربي الشمال والغرب، يستوي في ذلك نادل المطعم وموظف الفندق وسائق التكسي ومحاسب المتجر وكل من حذفته الأقدار لطلب الرزق إلى خارج بلاده.
بالمقابل تبلورت في المجتمعات الصحراوية الجديدة بعض العقليات التي جمعت بين امتلاك المال وفجاجة الطباع فزادت الطين بلة وأصلت من جديد للانطباع القديم بأن الصحراء لا تنجب إلا بداوة قاسية جافة مثلها. ظهرت وشاعت مصطلحات مثل الفقه الحضري والفقه الصحراوي ومقولة هيكل بأن النفوذ والتأثير سحبا من محاضن الحضارة العربية إلى محاضن البداوة والنفط، أو كما قال نزار قباني قبل نصف قرن: «ويا جملا ً من الصحراء لم يلجم
ويا من يأكل الجدري منك الكف والمعصم»
نزار في قصيدته تلك عير الصحراوي القديم ببيئته وفقره وقضاء الله وقدره عليه وسحب بانتهازية الشاعر المنافق مسؤولية عرب الشمال والغرب التاريخية لما مسحوا الجزيرة العربية من الذاكرة.
الآن حسب ما أرى، أصبح لدينا كعرب حالة استقطاب وتحفز من الطرفين لإثبات الوجود الحضاري والمعنوي وبدأت بوادر التنافس والمزاحمة في كل المجالات، العلمية منها والإعلامية والأدبية والفنية، وتلك أمور تبشر بخير. لا يوجد في مجالات النشاط البشري ما هو أفضل من التنافس على أماكن الصدارة الحضارية لتنشيط العقول واستثارة الطموحات على مستوى الحكومات ومراكز العلم والبحث والمؤسسات العلمية والاجتماعية والإعلامية، حتى لو كان من بين المحفزات الغيرة والمعايرة والاستكثار والنظرة الدونية المستمدة من رواسب التراث داخل أبناء القومية الواحدة.
يسعدني حقيقة أن يسخر منا بعض أخوتنا الذين سبقونا في التمدن اعتقاداً منهم بسبقهم الحضاري وليس المدني، لما ينتج عن ذلك من تنافس وتسابق إلى الأمام، وفي ذلك مكسب للطرفين تجاه ذلك الآخر الذي سبقهم كلهم منذ آماد طويلة وبمسافات حضارية عرضها ما بين الأرض والسماوات.