|
في المراحل الأولى لتشكلنا مع الحياة، ظهر محمد عبده متزامنا مع تلك الفترة، فارتبطت أغانيه بأحلامنا الطفولية، وأحلام المراهقة وشكلت وجداننا العفوي آنذاك، كنا في تلك الفترة مرتبطين وما زلنا بفن عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وأم كلثوم.
لم يكن يوجد فنانين سعودين بذلك المستوى الواسع من الانتشار باستثناء طارق عبد الحكيم، وطلال مداح، أما ما عداهما فكانوا مجرد فنانين شعبيين أمثال الرائع فوزي محسون (رحمه الله) صاحب الكلمة الحجازية السهلة السلسة وثنائياته مع الرائعة ثريا قابل متعها الله بالصحة والعافية، وكذلك على مسافة غير بعيدة كان عبد الله محمد الذي لم يقف معه الحظ كما الآخرين، ومحمد علي سندي رحمهم الله أجمعين، وكان في المنطقة الوسطى سعد إبراهيم الذي غنى للأمير خالد الفيصل أو قصيدة تغنى له وهي أغنية «ألا يا عين هلَي ... دموعك يا شقية» وسلامة العبد الله صاحب أشهر أغنيتين في ذلك الوقت «أرسلت لك يا عزوتي كم مرسول» وأغنية «أنا تل قلبي تل ... هوى البال في المشتل» أيام مشتل البلدية الشهير بالخرج (سكان الرياض القدامى يذكرونه حيل)، وكذلك الفنان الشعبي سالم الحويل وعبد العزيز الراشد صاحب الأغنية الشهيرة آنذاك «يا ذيب ياللي هاضني عواه» إن لم أكن مخطئ في النص وغيرهم كثر على مستوى مناطق المملكة وكان لهؤلاء الفنانين محبيهم ومريديهم ومستمعيهم.
في تلك الفترة من الستينات الميلادية ظهر محمد عبده وقال كلمته الشهيرة التي أطلقها الصحفي جلال أبوزيد «أنا فلتة» سخر الناس من هذه المقولة، وأخذ كل المجتمع يتحدث عن هذا الغرور والتعالي، بينما كنت أقول في قرارة نفسي إنه حقاً فلتة.
محمد عبده أول فنان سعودي يستخدم وسائل التسويق الحديثة في التعريف بنفسه وبمنتجه، ربما لو دفع ملايين الريالات لأكبر شركات الدعاية والإعلان لا أظن أنهم سيتوصلون إلى تلك الجملة التي لم تكن مألوفة في عرفنا ولا فهمنا لمعنى التسويق.
من فلتات محمد حين غنى أغنيته الشهيرة «لا تناظرني بعين» فكانت كلمات تلك الأغنية فتحاً جديداً في مفهوم الأغنية الطربية الحديثة، في الوقت الذي كان كثير من الناس يسخرون من كلماتها ويرددون بعضها بسخرية واستهجان مثل «زودوها حبتين، ماني صاحب صنعتين» بالإضافة لعدم استلطاف ترديد الكورال من الأصوات الطفولية، فكان انتشار هذه الأغنية قد عمّ كل الأرجاء وكان الناس يتناظرون حولها بين مؤيد ومُعارض.
إذن تلك الأغنية كانت فتحاً جديداً في مجال التسويق الاحترافي المعمول به حالياً في كافة مناحي الحياة، مع الفارق الكبير بين إمكانيات التواصل الإنساني والإعلامي في ذلك الوقت.
قبل هذه الأغنية يجب أن أنوه بأغنية «سكة التايهين» والتي رأيناها لأول مرة بمفهوم الفيديو كليب الحديث.
وهكذا توالت إبداعات محمد عبده من موسم لآخر فاشتهر وانتشر، وكانت ضريبة ذلك الانتشار والشهرة كثرة الإشاعات والاتهامات الباطلة التي لم تنل منه إلا إصراراً على مواصلة رحلة عطائه الفني الذي سيخلده التاريخ له إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم في فترة لاحقة ومع بروز دور التليفزيون كأداة انتشار سريع حتى وإن كان على المستوى المحلي بدأ محمد عبده يظهر عبر حلقات مسرح التلفزيون، وكانت أغنية «ثلاثة أيام» التي دوى صيتها في كل أرجاء المملكة وانتشرت في كل مكان فكانت بدايته للانطلاق نحو الغناء باللهجة النجدية وأتت بعدها، كفاني عذاب، وأغنية «قلبي اللي»، و»أيوه» وفي فترات لاحقة أتت أغنية «من بادي الوقت» وهكذا توالت إبداعات محمد عبده ، ثم أتت مرحلة الانتشار على المستوى العربي حين غنى في حفلات القاهرة ، فكانت أغاني أولى حفلات القاهرة «يا مركب الهند» كلمات الأمير بدر بن عبد المحسن وأغنية «شوفي يا عيني الحنان» كلمات الأمير محمد العبد الله الفيصل وهي من النوع الطربي الكلاسيكي، ربما لم تنل هذه الأغنية النجاح المطلوب مع أنها من وجهة نظري من أجمل ما غنى للأمير محمد العبد الله الفيصل الذي أعده من أجمل من كتب الكلمة الرومانسية.
ثم أتت بعد ذلك أغنية «الرسائل» كلمات الأمير بدر بن عبد المحسن فكانت بحق فتحاً تاريخياً لمحمد عبده على مستوى الوطن العربي، وهكذا توالت إبداعات الفلتة إلى يومنا هذا.
كتبت هذه الكلمات عن أبي عبد الرحمن ليس لسرد تاريخه ورحلته مع الفن... فتاريخه أغنى من أن أختزله في هذا الحيز الضيق، ولكني أردت تذكيركم وتذكير من يحبه ويحب فنه، أن يدعو له بالشفاء العاجل وأن يعيده الله إلى وطنه سالماً معافى بإذنه جل جلاله، ليواصل عطاءه الفني الراقي المترفع عن ترهات الابتذال والسطحية.
محمد عبده قيمة وطنية وقيمة فنية سامقة تستحق منا كل التقدير، ادعوا معي له بالسلامة والصحة والعافية.