من الناس من ينْفر نفُوراً من كل ما له صلة بماضيه: ذكرياتٍ ومواقفَ وأحداثاً، بحُجّة أنَّ ما فات من العمر، لا يَستحقُّ أن يلوي المرءُ إليه عنقه لحظةً من تفكيرٍ أو تَذكُّر أو عبرة، وإنما ينصبُّ التفكير على حاضره وما هو آتٍ!
) ومن الناس مَنْ لا يغادره ماضيه لحظةً، لأن فيه دروساً وعِبَراً ووقفاتٍ تعين على استيعاب حاضره واستلهام مستقبله، وينتمي كاتب هذه السطور إلى هذه الفئة من البشر، اعتزازاً بالماضي وتذكُّراً له، بكلِّ ما فيه من مواسم الفرح والتّرح، ولا يعني هذا عدم الاكتراث بالحاضر أو بما هو آتٍ، بل إنّ استنفار الماضي يدفعُ المرءَ العاقل إلى تكثيف الإحساس بالحمد لله والثناء عليه تقديراً لما آل إليه الحال وما يمكن أن يؤول إليه من حال أفضل من يُسْر بعد عُسْر، وراحة بعد نَصَبٍ، وسعادة بعد شقاء!
- بعد هذه النبذة القصيرة التي لم يكن منها بدٌّ، أعرض فيما بقي من حديث اليوم (فتافيت) من الذكرى، لأُدلِّل بها على أهمية ما سلف ذكره وأنه (ثروة) معنوية لصاحبها! فمثلاً:
(1)
- سُئلتُ مرةً عن موقع أبها في خارطة وجداني فقلت:
- لأبها في خاطري مكانةٌ مضيئةٌ من الذكريات لا تغرب تفاصيلها عن البال، مواقف وأماكن وأشخاصاً، ففيها وُلدت، وعلى ترابها نشأت، وفي جبلها وسهلها مارست شيئاً من اللَّهو البريء، وخُضت غمَارَ الركض اليومي مرةً خلف الأغنام راعياً، وأخرى ساقياً للزرع وثالثةً سائساً للثيران وهي تَسحبُ الماء من البئر لري المزارع، أو مشاركاً في إطعامها، وهو أمرٌ لم يكن باليسير أبداً لطفل في التاسعة، ومهما تنوَّعت مواطنُ الإقامةِِ التي تلت (هجرتي) من أبها قبل نحو خمسين عاماً، يظل القلب يخفق احتفاءً بتلك الذكريات، وعندي أن التنكُّر لها أو إنكارها يعني شطب مواسم مهمة من العمر أسهمت في تشكيل بعض ما أُلْتُ إليه اليوم!
(2)
- وسُئِلتُ في موقف آخر عن إرث الحب الذي تركته لي سيدتي الوالدة - طيب الله ثراها - (وديعةً) في خزائن الوجدان، فقلت:
أسهم افتراق والديَّ ورحيلُ والدي عن أبها في نشوء قدر غير هين من الحميميةِ في العلاقة مع سيدتي الوالدة - رحمها الله -، فكنت أراها في الأسبوع الواحد أكثر من مرةٍ، وحين كانت تحضر إلى مقر إقامتي في مزرعة جدي قادمةً من منزلها الزوجي الجديد في أبها، كنتُ أحرصُ أن أبقى إلى جانبها وقتاً طويلاً، أحدثها وتحدثني، وأستمع بشغف إلى ذكرياتها مع سيدي الوالد، وأتلقى منها النصائح والدعاء، وكان لهذا الالتصاق دور محوري في إكساب شخصيتي قدراً غير هين من الحساسية المعطّرة بالحب والمشاعر المترعة بشفافيةِ الإحساس!
- وأحسبُ أنّ من أكثر الذكريات حميميةً وحضوراً في وجداني مشهد والدتي - رحمها الله - وهي تبحث عني في المرعى الجبلي المجاور لمنزل جدي (والدها - رحمه الله -) ثم تناديني بأعلى صوتها وهي تحملُ لي زاداً من خبزٍ وشاي، (فاستأذن) من أغنامي المنتشرة في المرعى كي استقبلها وأهنا بنعيم حضورها ولو لبضع دقائق، وأُدفئ أحشائي بما جلبته لي من طعام!
- اليوم أقول وبكل زهو إن التصاقي بـ(سيدة الأحبة) في مطلع حياتي قد ألقى بظلاله عليَّ فرحاً بحُضُورها.. وألماً لفِراقها كلما همَّت بالعودة إلى عشّها الزوجي في أبها، ويمكنني الآن القول وبقدر من الثقة إن أمي كانت وستبقى (بوصلةً) يهتدي بها قارب حياتي في السرَّاء والضرَّاء وعبْر تخُوم العيش، حلوه ومره!
رحم الله أمي، وأرضاها، ورحمَ معها أمهات المؤمنين!.