نظام الخدمة المدنية نقصد به ذلك المعني بتنظيم والإشراف على مختلف جوانب التوظيف في القطاعات الحكومية وقد أنشأت لأجله وزارة مستقلة وهيئات أو مجالس ولجان ذات علاقة سواء دائمة أو مؤقتة. لكن واقع الحال يشير إلى أن نظام الخدمة المدنية لدينا يعاني اختلالاً كبيراً، بشكل قاد ويقود إلى صعوبات من جانب ومخالفات تصل حد الفساد من جانب آخر.
أحد الأسباب الرئيسة لذلك هو تحول وزارة الخدمة المدنية إلى وزارة توظيف مهمتها الرئيسة حماية لائحتها القديمة ومتابعة التوظيف على الأرقام الشاغرة التي توافق عليها الجهات المالية. الإشكالية هنا ليس في متابعة التوظيف وضبطه بل في القصور المصاحب لذلك في الجانب التشريعي والتنظيمي، حيث لم تبدو هذه الوزارة عاجزة عن تقديم مبادرات جذرية في سبيل إصلاح وهيكلة النظام الوظيفي العام بالمملكة.
أمام ذلك القصور لم تجد القطاعات الأخرى بداً من المبادرة باختلاق أوعية وأنظمة توظيفية جديدة خارج نطاق النظام الحكومي التقليدي وفي بعض الحالات يتم ذلك حتى دون اطلاع لوزارة الخدمة المدنية التي تغمض عينيها عن ما يحدث في القطاعات الأخرى طالما لا يمس وظائفها الحكومية المعتادة. أحد تلك الأنظمة على المستوى الأدنى تمثلت في وظائف البنود المختلفة وما فيها من إجحاف بحق الموظف سواء في حجم الرواتب أو حرمانه من حقوقه التقاعدية أو حقوقه في الترقية وغير ذلك. للأسف نحن نعاني حالياً من إصلاح ذلك الخلل ولا يبدو لي أننا سنعالجه بالشكل الكامل في ظل الآلية التي نشهدها حالياً في التعامل مع تلك الوظائف.
ذلك في جانب، في الجانب الآخر فلتت الوظائف الكبرى من سيطرة الخدمة المدنية وأصبحت في بعض القطاعات تنشئ بمخالفات تصل حد الفساد، إذا ما اعتبرنا أحد أوجه الفساد هو تفضيل فئة محدودة من الناس بمميزات تفوق ما هو مفترض وواقعي. فقد أنشأت بعض القطاعات شركات رواتب مسؤوليها تتجاوز خانة العشرات من آلاف الريالات وفي بعض القطاعات أنشأت برامج تشغيل يتقاضى كبار مسؤوليها رواتب ومميزات تتجاوز المائة ألف ريال، رغم أن راتب أعلى مسؤول في القطاع الحكومي (الوزير) لا يتجاوز نصف ذلك. كل ذلك يحدث بسبب غياب جهة أو مظلة تشريعية رقابية موحدة، فكل يريد أن يخلق لنفسه نظام خاص به ويقرر مميزات خاصة بفئة من منسوبيه دون الأخرى. طبعاً الكل يحتج بأن العمل يتطلب ذلك ولا يوجد خيارات في ظل شح الوظائف وعقم نظام الخدمة المدنية في تقدير الكفاءات وفي فتح وظائف جديدة. لكن هناك فرق بين منح بعض المرونة وبين تحولها إلى مصدر فوضى وتجاوزات توظيفية ليس لها تبرير علمي وموضوعي. طبعاً نحن نسميها تجاوزات لكن القائمين عليها لهم مسوغاتهم وهذا مؤشر على ضعف الأنظمة ووجود ثغرات بها وخصوصاً عندما يصبح لكل جهة سلطتها في وضع التنظيم الخاص بها في ظل تواضع نظام الخدمة المدنية، رغم أنها جهات تنفيذية ومعنية بمراعاة المال العام وحقوق منسوبيها والعدل في الحقوق والواجبات وغير ذلك.
نحن بحاجة إلى النظر وفق آلية تنظيمية تشريعية شاملة للقطاع الحكومي وليس بمجابهة الأمر وفق حلول جزئية متفردة لقطاع أو جهة دون الأخرى، بحاجة إلى الموازنة بين التضخم وبين تحقيق الاحتياجات التنموية في جانب التوظيف، وبحاجة إلى جهة تنظيمية قادرة على جلب أفكار حديثة في إصلاح نظام الوظيفة الحكومي حتى لا يزداد الأمر سوءاً، والجهة هذه لن تكون تلك التي عجزت عن فعل تطوير على مدى عقود من الزمن.