حدثني صديقي عن أحد أقاربه الذي اكتشف أنّ والده -الذي كان في خريف العمر- يشتكي من مرض السرطان!
لقد كان الأب يخفي الخبر عن أولاده لئلا يُحْزِنهم، بل إنه أخذ المواثيق على طبيبه أن لا يخبر أحداً من أبنائه أبداً وقال له: «لقد عشنا بما فيه الكفاية»!
هذا السر المكتوم، والكتاب المختوم، استطاع ذلك الابن الوحيد من بين إخوته أن يفتح ختمه، وأن يقرأ ما فيه من مشاعر الألم الموؤدة، حتى صارح بها والده فما لبث أن استسلم لذكاء ابنه الاجتماعي!
هذه القراءة الرائعة للمشاعر نموذج راقٍ من الأخلاق الحسنة من هذا الابن البار، وهي -في اعتقادي- ذروة سنام الخصال السَّنِية، إذ هي على ثلاث مراتب: الأولى: ترك الإساءة للآخرين وهي قاعدة الهرم، والثانية: تقديم النفع عند طلب الآخرين منك فقط، وهو موقف إيجابي- ولا شك- ولكنه معلّق بالطلب، والثالثة: المبادرة إلى نفع الآخرين قبل أن يطلبوا منك أصلاً، وهي رأس الهرم.
والسؤال المُلِحُّ: هل من المهم أن نتدرب على هذه القراءة الذكية للأحاسيس؟ أم أنها ترف أخلاقي؟
أظنك- عزيزي القارئ- تتفق معي بأنها في حالات كثيرة تعد أمراً ضرورياً، فمثلاً: الأب الذي تعوّد ردحاً من الزمن أن يكون هو القوي في أسرته يستصعب أن يظهر ضعفه وعجزه أمام أبنائه الذين كانوا في سالف الأيام محتاجين إليه.
والأم التي ترى ابنها المتزوج حديثاً يتحرك في نفسٍ خفيفة مع عروسه من هنا وهناك فمرة في رحلة، ومرة في تسوّق، ومرة في مطعم، لربما مالت عواطفها لشيء من ذلك ولكنها تستحي أن تطلب.
والزوج الذي يخصص لزوجته مصروفاً شهرياً لتقضي به حوائجها، ثم لا يكون كافياً- إما لسوء تقدير الزوج أو لغفلته عن ارتفاع الأسعار- يُحْرِج زوجته؛ لأن غالب الزوجات لا يطلبن المال من أزواجهن صراحةً بل يُفَضّلْن التلميح!
بل إن بعض الفقراء الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت لا يسألون الناس إلحافاً فكيف نعرفهم؟ وكم في الزوايا من خبايا!؟ لذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر: «يا أبا ذر إذا طبخت مَرَقةً فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك».
إن التدرب على قراءة المشاعر مفيد جداً كيلا يضعنا الناس في خانة المشاعر المتبلدة، فماذا نتصور في الأمثلة السابقة أن تكون نظرة الأب أو الأم تجاه أبنائهما أو نظرة الزوجة نحو زوجها؟
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «بينما نحن في سفر إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فَضْلُ ظَهْرٍ فلْيَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فَضْلُ زادٍ فلْيَعُدْ به على من لا زاد له» ما أجملك يا رسول الله! فمجرد التفاتة تكفيك لقراءة النص!
محمد عبدالله العبدالهادي - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود
aboanus@hotmail.com