لم تدع الأحداثُ السياسية العربية مزاجًا للكتابة الهادئة أو المتأنية أو المتخصصة؛ فبات الإيقاعُ غاضبًا كما حركة الشارع، ممتلئًا بصخب التسارع، مفتقدًا للرؤى المستقبلية التي تتحدث عن عالَم عربي جديدٍ لا يتكئُ على المخططات المرسومة من الدوائر الأجنبية التي فُوجئت بمسار التغيير الخارج عن النصوص المُعدة من قِبلهم.
يبدو أننا سنبقى مرتهنين لها زمنًا قادمًا مرًا؛ فنحن نثق بتدبيرهم وتقديرهم وإحصاءاتهم ووصفاتهم؛ مؤمنين بمثلهم العتيد: «العشبُ على الضفة الأخرى أكثر اخضراراً».
ليتها مشكلة ألوان؛ لكُنا قادرين على التلوين بما حُبينا من مواهب التلون، لكنه الاستلاب يجعل بعضنا لا يؤمن بالتغيير الذاتي بل الخارجي، وسوف نأمل أن يتركز اهتمامنا «الثقافي» على قراءة الظواهر واستقراء ما وراءها، بدلاً من التيه وسط التحارب «المؤدلج»، ودون أن ننشغل بالكلام العام العائم؛ فما يزال فينا من لم يتجاوز شعارات أحزاب «التحرير والإخوان والبعث» وصراع الشيخ والليبرالي.
بقي لونُ الحرية هو الأبرزَ في الحراك «الشارعي»، وهو لا يعني «الفوضى»، وإن كنا لن نأنف من تضاد المصطلحات في زمن سمته التناقض، وسيماؤه: ضوءٌ وظلام، وفكرٌ وسلطوية، وحضورٌ حقيقته الغياب، وغيابٌ متماهٍ بالتدخل والتداخل.
كذا نعيش، أو لعلنا مجبرون على التعايش مع الأساطيل والأساطير نموذجين لقوتين متجاذبتين تلتقيان في الهدف وإن اختلف التهديف؛ فالقوةُ الناقمة هنا هي ذاتها القوة الناعمة، وحين يحاربون بنا الإرهاب ويتصدون للقمع في مكان يقتلون الطفل والشيخ، ويهلكون الزرع والضرع في مكان آخر، وإذ تتصدر مبادئُ الحقوق والحرية والأقليات من باب فإنها تُوصد من بابٍ آخرَ حين تختلف الهُوية أو المذهب أو اللسان.
ووسط هذا البحر اللُّجي نبحث عن جاذبية الإنسان والمكان، وتأثير الإقناع والإمتاع، وتوازن المبدأ والممارسة، ودور التعليم والإعلام، ومن هنا تأتي قيمة الحوار الذي أشرعه «مهرجان الجنادرية» حول تكوين رؤية مستقبلية للقوة الناعمة التي لا تختلط فيها الأوراق؛ فتسند الحقَّ بالأحقية دون أن تستعدي بالقوة أو تستعلي بالفوقية.
ستأخذ الأحداثُ السياسية وتفاعلاتها الاقتصادية والاجتماعية مداها؛ ليبقى للثقافة والتعليم الموصلين للتطور الحقيقي بعد انصهارهما في رؤيةٍ مُعاينة ومُعاشة الدورُ الأبرزُ في رسم معالم الطريق بعد أن تنجليَ الأوضاعُ القائمة القاتمة.
المشكلاتُ - بصورة شمولية - نقطةُ التحول للحل، وحين تمس المعارفَ فهي - بذاتها - الحل، في حين تُولد الرتابة والنمطية والهدوء مصداتٍ لنمو المجتمع المعرفي القائم على الأسئلة المفتوحة والإجابات غير المنتهية.
والاستفهام الأهم: هل نمتلك مواكبةً ثقافية تعليمية تربوية معرفية للأحداث العاصفة التي تمر بها مناطق الجوار أم أننا نراهن على المؤقت والعابر والمنتهي؛ ليبقى خطابنا الثقافي وئيدًا ينفعل ولا يتفاعل، ولتظلَّ منظومة الهيمنة الفكرية محكومةً بسباق الأدلجة الصاخب المتكئ على التخويف والتخوين؟
ومثلما جاء نداءُ الحرية عاليًا في خطاب الشباب العربي فإن الحرية الثقافية هي التحدي الحقيقي القادم لتجاوز المرجعيات التقليدية التي هيمنت دهورًا على الخطاب الإعلامي والتعليمي والعلمي حتى باتت وصايتُها أنكى من أنظمة الاستبداد السياسي، ولعلنا أمام فرص جيدة للمراجعة الواعية؛ متطلعين إلى أدوار متعاظمة للمتخصصين «المعرفيين» خارج صناديق الأسرار والأسوار التي تسد الآفاق أمام الشموس الجديدة.
**الثقافة مساءلةٌ وتغيير.